ميز كارل ماركس، بشكل حاسم، الديالكتيك المادي العلمي من ديالكتيك هيغل المثالي، بتحديده أن منهجيته “الديالكتيكية، من حيث أساسها لا تختلف عن طريقة [منهجية] هيغل وحسب، بل وتناقضها بصورة مباشرة. وبالنسبة إلى هيغل فإن عملية التفكير، التي يحولها حتى تحت اسم الفكرة Idea إلى ذات مستقلة، هي ديميورغ [مبدع] Demiurgos الواقع الذي لا يشكل سوى مجرد مظهر لتجليها الخارجي. أما عندي فعلى العكس، فالمثالي [الفكري] ما هو إلا مادي منقول إلى رأس الانسان ومحول فيه (…). ولقد انتقدت الجانب الصوفي من ديالكتيك هيغل قبل حوالى 30 عاماً حينما كان هذا الديالكتيك لا يزال على الموضة (…). فالديالكتيك يقف على رأسه عند هيغل. بينما ينبغي ايقافه على قدميه بغية الكشف عن اللب العقلاني تحت القشرة الصوفية”(1). على هذا الأساس لخص ماركس أسس منهجيته الديالكتيكية النقيضة لمنهجية هيغل. وحدد ماركس الديالكتيك بشكله العقلاني بأنه شيء “فاضح بغيض في نظر البورجوازية ومفكريها النظريين، لأنه ينطوي على فهم إيجابي لما هو قائم، ونفي هذا الوضع القائم وانهياره المحتوم في آن واحد؛ لأن هذا الديالكتيك يرى الأشكال القائمة من منظور الحركة المتدفقة، أي من جانبها الزائل أيضاً، لأنه غير هيّاب، ولأنه في جوهره نقدي وثوريّ”.(2) أما مفهومه للتناقض فحدده بأنه ليس “المقصود ”الوحدة السالبة“ الهيغلية لطرفي التناقض، بل التلاشي الناشىء عن تناقضات مادية، عن نمط الحياة السابق للأفراد، المشروط مادياً، وهو تلاشٍ يؤدي إلى زوال هذا التناقض وتجاوزه في وقت واحد”.(3) ماركس في تمييزه لمنهجيته الديالكتيكية ومفهومه للديالكتيك ردَ من خلاله على اتهامه بأنه اتبع في (رأس المال”) منهجية ديالكتيكية ميتافيزيقية وأنه يبني نظريته وفقاً لثلاثية هيغل. وانتقد ماركس اتهام المجلة الوضعية (*) له بأنه في كتابه (رأس المال) قد “تناول الاقتصاد السياسي بطريقة ميتافيزيقية، من جهة، وتأخذ عليَ [أي على ماركس] من جهة ثانية – إحزر!- أنني قصرت نفسي على مجرد تحليل نقدي للوقائع الفعلية عوضاً عن تدبيج وصفات (كونتيه؟)(**) لمطاعم المستقبل. أما بصدد اتهامي بالميتافيزيقية، فالجواب عند البروفيسور زيبر: “إن منهجية ماركس، في ما يتعلق بمعالجة النظرية الصرف، هي المنهجية الاستدلالية التي تميز المدرسة الانكليزية؛ إنها مدرسة يشترك في سيئاتها وحسناتها أفضل النظريين الاقتصاديين.”(4)
انطلاقاً من تحديد ماركس لمنهجيته المادية الديالكتيكية النقيضة لمنهجية هيغل المثالية ندخل إلى مفهوم علاقة الفكر بالواقع، وعلاقة الأسبقية بينهما، والبراكسيس، فهي قضايا تشكل أحد المباحث الرئيسة في النظرية الماركسية – اللينينية التي أدخلت من خلالها جديدها في الفلسفة النفي لمفهومها المثالي والمادي الميكانيكي في آن معاً. فالفكر (الوعي) غير منفصل عن الواقع وتناقضاته وهي علاقة توجب تمييز مفهومها، لذلك فإنه لتحديد تلك العلاقة هناك ضرورة، منهجية، لتحديد كيفية ارتباط الفكر بالواقع وبالبراكسيس ودورهم في التغيير.
قبل بحث علاقة الفكر بالواقع نرى أن هناك ضرورة منهجية لعرض، بشكل مكثف ومختصر، لركيزة مفهوم الدولة وأدواتها، في ضوء المنهج المادي، كونه يوضح ارتباط الفكر بالواقع بتوسط الأيديولوجيا، المستوى الأيديولوجي، بما هي أداة من أدوات سيطرة الدولة على الواقع الاجتماعي وتكريس أيديولوجيتها. مفهوم الدولة غير منجز في كتابات ماركس، فقد انتقد مفهومها عند هيغل، وانتقد المفهوم البرجوازي للدولة الذي من خلاله تؤبد الشروط المادية للاستغلال الطبقي وسيطرة الطبقة البرجوازية، وأوضح الشروط المادية التاريخية لتكون الدولة. كتب ماركس عن دور الدولة في تأبيد الاستغلال وسرقة فائض قيمة العمل، الوظيفة الطبقية للدولة، انه عندما يبدأ رأس المال “في النمو فإنه يضمن لنفسه الحق في امتصاص كمية كافية من العمل الفائض، ليس فقط بقوة العلاقات الاقتصادية وحدها، بل بمعونة سلطة الدولة أيضاً”.(5) مفهوم الدولة كما سبق وأشرنا غير مكتمل في نتاج ماركس، وحول ذلك كتب انجلز في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة)، الصادرة عام 1884، ان كتابه هو “بمعنى ما، إنفاذ لوصية. ذلك أن كارل ماركس هو الذي أخذ على عاتقه أن يبسط نتائج بحوث مورغان ويربطها بنتائج دراسته – وإلى حد ما، أستطيع القول دراستنا- المادية للتاريخ، وأن يكتشف بهذه الصورة كل ما تنطوي عليه من الأهمية (…). إن كتابي هذا ليس من شأنه أن يقوم إلا بمقدار ضئيل مقام ما تعذر على صديقي الراحل أن يقوم به”.(6) حدد انجلز أن الدولة ليست فكرة مطلقة فوق الواقع كما قال هيغل، أو فكرة أخلاقية، أو فوق الطبقات والصراع الطبقي، بل مرتبطة بالواقع وتطوره، وبالطبقة المسيطرة “الدولة هي منظمة الطبقة المالكة لأجل حمايتها من الطبقة غير المالكة”،(7) لذلك تفرض أيديولوجية تحجب فيها موقعها الطبقي ودورها في حماية الدولة القائمة.
من المقولات الرئيسة في النظرية الماركسية – اللينينية علاقة التفاعل ما بين الفكر والواقع، ولكنها في ضوء المنهجية المادية الديالكتيكية النقيضة للثنائية وللميكانيكية، توجب التساؤل عن شروط التفاعل بينهما ومفهومه، مسألة طرحها الشهيد مهدي عامل انطلاقاً من عدم تحول علاقة التفاعل بين الفكر والواقع إلى بداهة، محدداً أن وضع علاقة التفاعل هذه في إطار استقلالية نسبية لحركة الفكر عن حركة الواقع تطرح مشكلة، صاغها بسؤالين هما: كيف يكون الفكر على علاقة تفاعل مع الواقع وهو في تطوّره مستقل عنه؟ والسؤال الثاني صاغه تأسيساً على مبدأ رئيس في الماركسية هو أن التاريخ في تطوره الموضوعي يخضع لقوانين علمية محددة، وبالتالي السؤال الذي طرحه هو إلى أي حد نستطيع القبول، من غير تناقض، بمساهمة الفكر الفعالة في تطور التاريخ؟.
تمحورت إجابة مهدي عامل عن السؤالين حول أن شروط التفاعل بين الفكر والواقع تكمن في أن العلاقة بينهما هي علاقة بين بنيتين هما بنية فكرية محددة وبنية اجتماعية شاملة، وحركة الفكر في اكتشافه للواقع ليست فعل إرادة ذاتية أو فردية، بين وعي فردي وواقع موضوعي، أي لا تنحصر في العلاقة النفسية، ولكنها ليست علاقة مباشرة يحددها الوعي الفردي بل هي علاقة غير مباشرة تتم في إطار البنية الأيديولوجية الخاصة بالبنية الاجتماعية على أساس أن تحديد البنية الفكرية لا يحصل إلا في إطار البنية الاجتماعية الشاملة، وأن البنية الفكرية لها طابع اجتماعي تاريخي ناتج من وجودها الضروري داخل البنية الأيديولوجية لا من علاقتها المباشرة بالواقع الاجتماعي؛ ويكمل مهدي عامل تحديده المتعلق بظهور التناقضات الطبقية في البنية الاجتماعية فإنها تظهر في البنية الأيديولوجية معكوسة بمعنى أنها تخفي حقيقتها الطبقية فتظهر وكأنها تناقضات بين أفكار مجردة ناتجة من ذرات فردية مبعثرة. وهذا مثلاً ما حاوله هنتنغتون في طرحه لصراع الحضارات. وبالتالي فإن “العلاقة بين الفكر والواقع ليست إذن علاقة بسيطة، بل هي علاقة معقدة يتحدد فيها الفكر، ليس بالواقع مباشرة، بل بالبنية الفكرية التي تحددها البنية الاجتماعية الشاملة لتحديدها للبنية الايديولوجية الخاصة بها. إن تعقد العلاقة هذه هو الذي يخضع فعل الفكر في الواقع لشروط محددة تجعله ممكناً. والشرط الأساسي لامكان هذا الفعل أن يكون تفاعلاً. معنى هذا أن الفكر ليس له أثر في الواقع الاجتماعي إلا لأن لهذا الواقع أثراً فيه”.(8) بذلك تظهر العلاقة الديالكتيكية للأثر المتبادل بين الفكر والواقع بتوسط البنية الأيديولوجية. إذن، هي حركة الفكر الديالكتيكي الموضوعية. أما أثر الفكر بالواقع، أو بحسب تعبير مهدي عامل الحركة العكسية لعلاقة التفاعل بين الفكر والواقع، فإنه ينطلق من تحديده لعلاقة فعل المستوى الأيديولوجي في الواقع، كبنية، ببقية مستوياتها البنيوية وبالأخص المستوى السياسي، المستوى الرئيسي، داخل حركة تطوّر الواقع الاجتماعي التاريخية، أي معرفة علمية لقوانين التطور التاريخي للبنية الاجتماعية المحددة، فنشاط الفكر، بتحديد مهدي عامل، في إنتاج المعرفة العلمية بقوانين تطور الواقع الاجتماعي التاريخي أساسي لنجاح الممارسة السياسية لتحويل الواقع تحويلاً ثورياً، ويضاعف مهدي عامل تحديده بقوله ولكن أثر الفكر في الواقع لا ينحصر في هذا النشاط النظري المنتج للمعرفة، فالوجه النظري في الفكر يبقى تأملياً إن لم يتجسد في نضال ثوري هو في النهاية مقياس لصحته، كما أن القاعدة النظرية لهذا النضال هي مقياس لثوريته. هنا يكمن معنى العلاقة الديالكتيكية في جملة لينين الشهيرة “لا نظرية ثورية من دون ممارسة سياسية ثورية”، ليصل مهدي عامل في تحديده للحركة العكسية لعلاقة التفاعل بين الفكر والواقع إلى أنه “لا يصير الفكر قوة فاعلة في التاريخ إلا بصيرورته قوة مادية، ولا يكون ذلك إلا حين يتجسد في النضال العملي للجماهير، أي في ممارستها السياسية. والوجود المادي للفكر هو في هذه الممارسة السياسية”.(9) ربط ماركس وانجلز بين الوعي والوجود (الواقع) والبراكسيس في عملية ديالكتيكية واحدة، الانطلاق فيها “يتم من البشر في فعاليتهم الواقعية، وأن تصور الانعكاسات والأضداد الإيديولوجية لهذا التطور الحياتي يتم انطلاقاً من تطورهم الحياتي الواقعي أيضاً”.(10) فوجود البشر الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم الاجتماعي وليس العكس. هذا الوجود الاجتماعي للبشر هو موقعهم الطبقي في البنيَّة الاجتماعية، الذي على أساسه يخاض الصراع الطبقي بين طبقتين على طرفَي نقيض الطبقة البرجوازية المسيطرة، والطبقة العاملة التي تخوض ممارستها(*) النضالية، البراكسيس، من أجل التغيير الجذري والانتقال من نمط إنتاج رأسمالي يكرّس الاستغلال الطبقي إلى نمط إنتاج نقيض له.
انطلاقاً من تحديد مفهوم الدولة ودورها في تأبيد الاستغلال الطبقي وعلاقة الفكر بالواقع بتوسط المستوى الأيديولوجي الذي يعكس تناقضات البنية الاجتماعية وطبيعة الأيديولوجية المسيطرة عليها والموقف منها ودور البراكسيس، تسعى الفلسفة المثالية، بمختلف مذاهبها واتجاهاتها، إلى طمسها تحت مسمَى الحياد الأكاديمي، أو اللا أيديولوجيا لحجب موقعها الطبقي في الواقع الاجتماعي ودورها في تأبيده. بعملية الطمس تلك تصبح الفلسفة إحدى أدوات السلطة السياسية المسيطرة (الدولة) المستخدمة ضد فلسفة التغيير الاجتماعي الثوري. لذلك فإن الصراع بين الآراء يمثل عملية ذات خلفيات فلسفية تعكس الموقع الطبقي بين أيديولوجيتين على طرفي نقيض أيديولوجية الطبقة البرجوازية المسيطرة، وأيديولوجية الطبقة العاملة، الماركسية – اللينينية، أي أن الصراع الأيديولوجي شكل من أشكال الصراع الطبقي. واللا أيديولوجية هي أيديولوجية بامتياز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
(1)ماركس كارل، رأس المال، ترجمة فهد كم نقش، دار التقدم، موسكو، لا. ط، 1985، مج 1، ص. ص 27-28.
يترجم فالح عبد الجبار Demiurgos بـ خالق، أما فهد كم نقش الذي ترجم المجلد الأول، الجزء الأول من رأس المال الصادر عن دار التقدم، موسكو، وشارك في ترجمة الجزء الثاني منه، فلا يترجم المصطلح بل يعربه ديميورغ، وفي حاشية هذه النسخة وضع الناشر في الهامش مصطلح خالق، مبدع، كترجمة لـ .Demiurgos
(2) ماركس كارل، رأس المال، ترجمة فالح عبد الجبار، 3مج، دار الفارابي، بيروت، ط.1، 2013، مج1، ص. 38.
(3) كارل ماركس، فريدريك انجلز، الايديولوجية الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب، دار الفارابي، بيروت، ط1. ص.315.
(4) ماركس كارل، رأس المال، ترجمة فالح عبد الجبار، مصدر سابق، مج1، ص. 35. (*) – هي مجلة الفلسفة الوضعية التي صدرت في باريس من عام 1867 إلى 1883. وقد نشرت في عددها الثالث من عام 1868 عرضاً سريعاً للمجلد الأول من رأس المال بقلم دي روبيرتي، من أتباع الفيلسوف الوضعي الفرنسي أوغست كونت. [ن. برلين]. ماركس كارل، رأس المال، مج1، ترجمة فالح عبد الجبار، مصدر سابق، هامش (*) ص. 35. (**) – نسبة إلى الفيلسوف الوضعي أوغست كونت (1798-1857). [ن.ع] (ن.ع = الناشر العربي). المصدر نفسه هامش (**)، الصفحة نفسها.
(5) ماركس كارل، رأس المال، ترجمة فالح عبد الجبار، مصدر سابق، مج1، ص. 347
(6) إنجلز فريدريك، أصل العائلة والملكية الخاصة للدولة، ترجمة أديب يوسف، ط1، دار الفارابي، بيروت، يناير/ كانون الثاني 2016، ص. ص 11-12.
(7) إنجلز فريدريك، أصل العائلة…، مصدر سابق، ص. 288.
(8) عامل مهدي، مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني. 1 – في التناقض، 2- في نمط الإنتاج الكولونيالي، ط 5، دار الفارابي، بيروت، 1986، ص.30.
(9) عامل مهدي، مقدمات نظرية…، مرجع سابق، ص. 34.
(10) ماركس كارل، انجلز فريدريك، الايديولوجية الألمانية، مصدر سابق، ص. 38.
(*) من الترجمات الحفرية لمصطلحات الماركسية ولإعطاء المصطلح الأجنبي معناه باللغة العربية، ترجمة الياس شاكر لمصطلح البراكسيس بـ “مراسة” و “مراسيّة”. مراجعة ترجمة الياس شاكر لكتابَي لويس ألتوسير:
تأهيل إلى الفلسفة للذين ليسوا بفلاسفة، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2017. وكتابه الثاني أن تكون ماركسيّاً في الفلسفة، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2019.
**سكرتير تحرير منصة (تقدم)
منصة (تقدم) – 27 أيلول 2024