واحدة من أكثر القراءات تأثيرا التي تم تقديمها في العقود الماضية لماركس، هي قراءات الباحث مويشي بوستون، الذي حصل على شهادة الدكتوراه في فرانكفورت عام 1983، وبالتالي، فهو بمثابة شخصية تربط بين القراءة “الجديدة” الألمانية والأميركية لماركس. في كتابه “الوقت والعمل والهيمنة الاجتماعية” عام 1993، يقدم لنا بوستون إعادة تفسير لنظرية ماركس النقدية لا تبني نقدها على “موقف العمل” بل تحول الشكل “المحدد تاريخيًا” للعمل في المجتمع الرأسمالي إلى “موضوع” للنقد.

النهج الأول ينتقد فقط الملكية الخاصة والتوزيع غير المتكافئ للثروة، ويؤكد ضمنيا على الإنتاج الصناعي والعمل البروليتاري كطرق عابرة للتاريخ، بهذا القدر أو ذاك، لتنظيم عملية تراكم الثروة. أما حسب بوستون، فإن من الضروري فهم “العلاقات الاجتماعية الحقيقية للرأسمالية” التي تتشكل مفاهيميا من خلال العمل المجرد، القيمة، ورأس المال.  وفي نهاية المطاف، إذا كان ما يميز نمط الإنتاج الرأسمالي غير واضح تماما، فإن من المستحيل التفكير في بدائل ذات مغزى.

دعونا ننظر في مثال. في مجلد حديث عن مقاربات الدراسات الثقافية الأمريكية، تناقش جودي ميلاميد بإيجاز كيف تعرفت الدراسات الأمريكية على الماركسية ورد فعلها عليها. ما يثير الاهتمام في مقالتها هو أنها تظهر بشكل جيد حدود التقاليد الماركسية. وفي الوقت نفسه، يظل نقدها لماركس محدودا لأنها تقرأ ماركس من خلال منظور التقاليد. ونجدها تبدأ بملخص موجز:

«بالنسبة لماركس، فإن العداء الأساسي للمجتمع الرأسمالي هو أنه عندما تبيع العاملة قوتها إلى الرأسمالي، فإنها تحصل على أجر أقل من القيمة التي تنتجها قوة عملها. القيمة الإضافية التي يستخرجها الرأسمالي من العامل تسمى فائض القيمة وتشمل الربح. يقفز ماركس من نقده لهذه العلاقة غير المتكافئة، الى تنظير الشكل السلعي، وتحويل المال إلى رأس مال، [إلخ].»

وإذا سرنا معها في هذا المسار سيتوجب علينا أن نتوقع من ماركس أن يبدأ رأس المال بتحليل الاستغلال في عملية الإنتاج ثم ينتقل إلى مناقشة المقولات الاقتصادية الأساسية. لكن ماركس لا يفعل ذلك، وكيف يمكن أن يفعل ذلك؟ لأنه سيتطلب من ماركس تحليل فائض القيمة قبل أن يدرك القيمة! في الواقع، العكس هو الصحيح: فبعد البدء بتحليل السلعة والقيمة والمال ورأس المال، يبدأ ماركس في الدخول الى الأسرار الخفية لعملية الإنتاج.

إذا تم التعامل مع تحليل الأشكال الاقتصادية الأساسية على أنه ثانوي وتم التعامل مع “العلاقة غير المتكافئة” للاستغلال على أنها أساسية، فإن هذه الأشكال ذاتها - السلع ، النقد، رأس المال - قد تبدو وكأنها تشكّل كل تشكيل اجتماعي ممكن. فبينما تقر ميلاميد بأن الرأسمالية هي “مجرد نمط واحد لتنظيم القوى الاجتماعية”، نجدها تستمر في الادعاء بأن “الاشتراكية ... ستعيد تنظيم المجتمع بحيث يتم توزيع رأس المال، الذي يتم إنتاجه اجتماعيا دائما، على المجتمع بدلاً من أن يستولي عليه الرأسماليون”. ولكن إذا كان المقصود بالاشتراكية هنا أن تكون مرادفا لـ “مستقبل ما بعد الرأسمالية”، فقد نتوقف ونتساءل لماذا لا يزال هناك “رأس مال” أصلا يمكن توزيعه. إلا يعني ذلك الإقرار بأن كل مستقبل محتمل لما بعد الرأسمالية سيكون بمثابة عودة الى الرأسمالية؟

من الواضح ان قراءة ميلاميد تتوافق مع فهم (خاطئ) وواسع الإنتشار لماركس باعتباره ناقدا للإقتصاد السياسي، وهذا الخطأ واسع الإنتشار هو ما يسمى بالتقليد بشكل خاطئ ايضا. ويبدو ان الباحثين في العلوم الإنسانية يعتمدون على روايات تقليدية تم إعادة إنتاجها في روايات تمهيدية للفكر الماركسي منذ انجلز على الأقل. ولا بد من الإقرار بأن هذا التقليد الذي تم تشكيله على هذا النحو يعاني من نقاط عمياء أوجزتها ميلاميد بقولها:

« ثمة شريحة من الباحثين في موضوعة مابعد الماركسية يرفضون الطريقة التي جرى من خلالها وضع المادية التاريخية لماركس ضمن ديناميكية أوروبية مركزية، حيث جرى التنظير في موضوعة العمل بإسلوب يهمش العبودية والإستعمار واستغلال النساء والأطفال. لكنها في نفس الوقت ترفض الدوغما التي وصلت اليهم من خلال التقليد الماركسي المؤسساتي التي تقول بإن “التاريخ تطوري ومدفوع بنمو القوى المنتجة وحدها، وانه يتقدم نحو الإشتراكية والشيوعية بقيادة البروليتاريا الثورية».

السؤال هو هل نجح التقليد الماركسي المؤسساتي في معالجة هذه القضايا؟ الجواب كلا. المهم هنا أنه من اجل التعامل مع هذه النقاط العمياء، الثغرات، سيكون من المفيد إيلاء اهتمام أكبر للتمييز بين ماركس والتقليد الماركسي وانواع الماركسية التي ناقشنا بعضها سابقا.

 

عرض مقالات: