تمثل الأيديولوجيا النيوليبرالية التي انبثقت على خلفية تكرر الازمات الاقتصادية الشديدة التي رافقت النظام الرأسمالي ومن أجل أيجاد حلول للتكيف وللتصدي لها والتي في الجوهر، تمثل نفيا للفكر الليبرالي الكلاسيكي الذي ساد في مجالات   السياسة والاقتصاد والثقافة في أوروبا وأمريكا الشمالية منذ القرن التاسع عشر، والذي بدأ بالانحدار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ورافقه صعود التيارات السياسية المحافظة واليمينية.

وتؤكد النيوليبرالية على الحرية الكاملة لاقتصاد السوق وتعزيز دعم الشركات الكبيرة بعيدا عن التدخل الحكومي، عبر إجراءات متعددة منها مثلا خصخصة وبيع ممتلكات الدولة واتباع سياسات تقشفية صارمة لتخفيض الأنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية. وتعتبر مارجريت تأشر (1925-2013) التي أصبحت رئيسة وزراء بريطانيا عن حزب المحافظين في 1979 -1990 ورونالد ريجان (1911-2004) الرئيس الأمريكي الأربعون الذي جلس في البيت الأبيض لدورتين انتخابيتين (1981-1989) هما الأكثر تشددا في التطبيق الصارم لمسار النيوليبرالية التي ركزت على أهمية العولمة وتقشف السياسة المالية والغاء التشريعات التي تحد من حرية الرأسمال والتجارة وتخفيف الضرائب على الشركات وخصخصة قطاع الدولة وتقليص الانفاق. وعزا الاقتصادي ملتون فريدمان وهو احد منظري النيوليبرالية في كتابه (الرأسمالية والحرية) انتخابهما الى التحول في الرأي العام على خلفية التصاعد في الانفاق

وتعود بداية الأفكار النيوليبرالية بالظهور في أمريكا خلال ثلاثينيات القرن الماضي في فترة الكساد الكبير بعد تدني شعبية هيمنة الدولة على الاقتصاد بسبب فشل السياسات الاقتصادية الليبرالية التقليدية في مواجهة الازمات الاقتصادية المتلاحقة، حيث بدأ البحث عن منظومة فكرية اقتصادية سياسية جديدة. وقد لعب انهيار الاتحاد السوفيتي (1917-1990) وانتهاء الحرب الباردة دورا هاما في تحفيز انتشار الأيدلوجيا النيوليبرالية في العالم.

 ومن رموز النيوليبرالية المعروفة الاقتصادي البريطاني النمساوي فردريك فون هاييك (1899-1992) الذي حصل على جائرة نوبل في 1974 وعرف بكتاباته حول التذبذبات الاقتصادية ودور السياسات السعرية في تنظيم النشاط الاقتصادي المجتمعي، والاقتصادي الأمريكي ملتون فريدمان (1912-2006) والذي حاز أيضا على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1976 وعرف ببحوثه حول الاستهلاك والسياسة النقدية التي وقفت بالضد من المدرسة الكينزية لصالح النقدية المتعلقة بكمية وحركة النقود في الاقتصاد. هذا اضافة الى نخب اقتصادية أخرى مثل جيمس بوكانان (1919-2013) الأمريكي الحائز على جائزة نوبل في 1968 لأبحاثه المتعلقة بدور السياسيين والبيروقراطيين في عملية اتخاذ القرارات لحماية مصالحهم المادية والاجتماعية. وكان لهؤلاء وآخرين تأثير كبير على تبني الأيديولوجيا النيوليبرالية من قبل السياسيين وانتشارها في الأوساط الجامعية والاكاديمية والثقافية. وقد رافقتها رؤية سياسية في أن هذا النهج سيؤدي الى خلق نخبة مميزة من البشر الذين بفضل نجاحاتهم الباهرة كبديل عن الديمقراطية التمثيلية البرلمانية، وحيث تتشكل بنية سياسية جديدة تقود المجتمع بكفاءة عالية. وهذا احد أسباب الانتقادات والاعتراضات عليها، كونها تشكل خطرا على الديمقراطية والحقوق والمكتسبات النقابية التي ناضل الملايين من اجلها بسبب تغول الشركات وتقلص الضمانات حول الانصاف والمساواة والعدالة الاجتماعية.

وعلى الصعيد الثقافي بادرت العديد من الاتجاهات اليسارية والماركسية في تدقيق المخاطر التي تحملها السياسات الاقتصادية الجديدة على القضايا المجتمعية المتعلقة بالقيم الأخلاقية والعدالة الاجتماعية. وبرز اتجاهان احدهما يتضمن نقدا للفكر الماركسي “التقليدي” لعدم تناوله بشكل معمق المفاهيم المرتبطة بالمعايير والقيم الإنسانية الشاملة، مختزلا إياها الى شعارات سياسية. على سبيل المثال ان الاستغلال في النظام الرأسمالي هو عادل بالنسبة للبرجوازية وفي الوقت نفسه فان النضال الثوري للبروليتاريا هو عادل أيضا، وكان من الأفضل على ماركس الاكتفاء بتبني نموذج الفكر الاشتراكي الطوباوي الذي اعتمد على قيم ومعايير أخلاقية واضحة. بينما يرى الاتجاه الاخر ان الخلل الحقيقي هو في تفسير وفهم الكلاسيكيات الماركسية نتيجة ما لحق بها من تشوه في التطبيق خلال تجربة الاشتراكية القائمة السوفيتية، والذي رافقه حسب رأي المفكر الفرنسي الماركسي المعروف لوي التوسير (1918-1990) ضعف وتراجع في دور الأحزاب اليسارية والشيوعية السياسي والفكري في أوروبا كردة فعل تجاه خيبة الامل والإحباط نتيجة انهيار المشروع الاشتراكي السوفيتي، والذي حفز تصاعد  الدعوات للعودة الى ماركس واعتماد القيم الإنسانية عبر “أنسنة” الماركسية والدعوة الى اشتراكية بوجه أنساني.

ولوحظ أيضا تعدد الانتقادات للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي تسلمت مقاليد الحكم في بعض البلدان الاوربية وتبنت نموذج دولة “الرفاه الاجتماعي” حيث أن القضية الرئيسية لا تتمثل في اتخاذ خطوات أصلاحية لتحقيق الانصاف والعدالة  الاجتماعية بل في التصدي لجوهر التناقض المتحقق بنيويا داخل النمط الإنتاجي الرأسمالي المعتمد على الاستغلال والذي من مظاهره التشيؤ والاغتراب وفقدان المساواة والعدالة، حيث تستخدم الأقلية فائض القيمة لجمع ثروات خيالية. وهو ما لا يمكن انهاؤه الا عبر نضال ثوري لشغيلة اليد والفكر وضمان وحدة النظرية والممارسة. وقد قدم صعود الأيديولوجيا النيوليبرالية تحديا وجوديا لدولة الرفاه الاجتماعي بسبب تعاظم دور اليمين المتطرف في هذه البلدان الذي قام بإلغاء وتقليص التخصيصات المالية والتشريعات المكرسة لدعم الطبقات الهشة في أوروبا، خاصة بين أوساط اللاجئين والمهاجرين الذين يبلغ عددهم بالملايين.

ولم تقتصر ردود الأفعال على الاتجاهات اليسارية بل  شملت أيضا نخبا فكرية من أوساط أخرى تطالب بالحفاظ على القيم الأخلاقية مثل المساواة والعدالة داخل المجتمع الأمريكي الذي تتعاظم فيه اعداد الفئات المهمشة خاصة بين أوساط الملونين كونها تزيد من مخاطر احتدام الصراع المجتمعي الداخلي، والحل عبر  تكريسها دستوريا وقانونيا لضمان المساواة في الفرص والاختيار والعمل والتوزيع العادل للثروات المادية وضمان الحريات الإعلامية والتنقل والخدمات كالصحة والسكن والتعليم ورفض التفرقة العنصرية ونشر المحبة والتضامن بين أفراد المجتمع الأمريكي.

ويعود الفضل الى الفيلسوف الأمريكي جون بوردلي رولز (1921-2002) في تطوير النموذج النفعي أو التوزيعي للعدالة الاجتماعية المنسجم مع خصوصيات النيوليبرالية كأيديولوجيا للبناء السياسي والاقتصادي الأمريكي ومحاولات عولمته. وهناك شبه اتفاق على ان نشر كتاب رولز (نظرية العدالة) في 1971 كان الأكثر تأثيرا حيث طالب فيه الذين يملكون الكثير أن يقدموا المساعدة لمن هم اقل حظا عبر توفير المساواة في الفرص.

 وقد بدأ رولز حياته الأكاديمية بدراسة الدكتوراة وكانت اطروحته حول الفلسفة الأخلاقية. وألف ثلاثة كتب وكتب عشرات المقالات كان آخرها حول “العدالة كإنصاف”. كما قام بتفحص النموذج الليبرالي الكلاسيكي لمفهوم العدالة الذي جاء في كتابات الفيلسوف البريطاني توماس هوبز (1588-1679) وجون لوك      (1632-1704) والمفكر الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778) وصياغة أفكاره حول عقد اجتماعي جديد يسمح للمواطن اختيار ما يلائمه من تطبيق لمبدأي الانصاف والعدالة بما ينسجم وظروفه الخاصة، وتطبيقه بشكل ديناميكي. وأطلق عليه رولز “التوازن التعبيري” الذي يتيح للفرد ان يبدأ بالموافقة وتقييم موقعه في العقد الاجتماعي، ومن ثم تكييف تطبيق العدالة حسب ظروفه الملموسة، وصولا الى حالة توازن مناسبة. وتعتمد صياغات رولز هذه على مبدأي الحرية والمساواة لجميع المواطنين الذين يجب أن تتاح لهم فرص متساوية لتحقيق طموحاتهم والتي يجب ان تكون الأساس في بناء المؤسسات القانونية والدستورية والسياسات الاقتصادية التي تضمن توزيعا عادلا للمنافع الاجتماعية،  وصولا الى مجتمع عادل يضمن الخير للجميع ،خاصة الفئات الهشة بما يناسبهم  دينيا وثقافيا، ويوفر لهم ممارسة تأثيرهم من خلال “منابر سياسية شعبية”  لدعم الحرية الفردية والمساواة السياسية والمشاركة الاقتصادية بما يخدم تنمية قدرات الانسان الذاتية وتحقيق مبادى العدالة المنصفة المتفق عليها والتي تدعمها الدولة قانونيا ودستوريا وتصبح حجر الزاوية للحكم المدني والعقل الجمعي المجتمعي، على أساس أن العدالة الاجتماعية هي الحالة الطبيعية التي في ظلها يتحقق التعاون والتكاتف الإنساني.

ويرى البعض أن ما قدمه رولز هو مجرد حماية النظام الرأسمالي على شكل جرعات للتخفيف من المعاناة الإنسانية وتعاظم الاستلاب، خاصة داخل أوساط الفئات المهمشة في المجتمع الأمريكي التي تتزايد بأعداد كبيرة وتتصاعد نضالاتها المطلبية والسياسية.

و يعتبر رولز الماركسية نظرية شمولية ونقيضا للحريات الديمقراطية الأساسية لأنها تنكر حقوق الفرد. ومد رولز أفكاره حول العدالة الى مجال السياسة الدولية وكان من الذين ادانوا قصف المدن واستخدام القنبلة الذرية في الحرب العالمية الثانية. ولكن بقيت أفكاره محصورة بتأثيرها النظري ولم يصل الى مجال التطبيق لأن الاتجاهات المحافظة واليسارية رفضتها.

و قد تواصل رولز مع يوجين هابرماس مدير مدرسة فرانكفورت للبحوث الاجتماعية. وتميزت نقاشاتهما باهتمام من قبل المعنيين بالفلسفات السياسية المعاصرة، خاصة وان كليهما اعتمدا أفكار الفيلسوف الألماني كانت (1724-1804) حول استخدام العقل بآفاقه ومحدوديته (أنظر كتاب تود هيدريك: العقل والتعددية وادعاءات الفلسفة السياسية، دار نشر جامعة ستانفورد 2010)، وكذلك في الاشراف على بعض اطروحات الدكتوراه لتلاميذ المعهد ومنهم الفيلسوف الألماني رينر فورست (ولد عام 1964) الذي يمثل حاليا الجيل الجديد فيه، وكتب عددا من المؤلفات حول مبدأ التسامح والعدالة السياسية والاقتصادية.

عرض مقالات: