في ثمانينات القرن التاسع عشر نشطت بعض المجموعات الفوضوية في مدن شيكاغو ونيويورك، وكانت تتألف من بعض الأميركيين إضافة الى عدد من المهاجرين الالمان. ومن بين هؤلاء تبرز شخصية يوهان موست الذي ساهم بشكل كبير في نشر الافكار الماركسية في أميركا. وقد لفت موست انظار ماركس اليه عندما كان محررا لصحيفة “الحرية” باعتباره متحدثا لبقا ومحرضا حماسيا، وكان من المدافعين عن كمونة باريس ودخل السجن لأكثر من مرة بسبب نشاطه الإشتراكي في ألمانيا. وخلال الفترة الممتدة من عام 1868 الى عام 1878 قضى موست خمس سنوات منها في السجن الذي كان يسميه “جامعتي” لانه تمكن خلال هذه الفترة من قراءة (رأس المال) لماركس. وفي عام 1874 نشر كتيبا له بعنوان “رأس المال والعمل: مقتطفات من كتاب ماركس رأس المال” سعى فيه الى تقديم أفكار ماركس بشكل شعبي مبسط. ثم هاجر الى أميركا عام 1882 وهو يحمل معه متاعا فكريا خليطا من الماركسية البلانكية وبعض من الباكونينية.

في عام 1875، طلب قادة حزب العمال الاشتراكي الألماني من ماركس مراجعة كتيب موست لطبعه مرة ثانية. امتثل ماركس وأعاد كتابة عدة فصول، أهمها الفصل الأول الذي يفصل السلعة والنقد. وفي رسالة بتاريخ 14 حزيران 1876 إلى صديقه فريدريخ زورغه، وهو من المشاركين في ثورة عام 1848 وانتهى به المطاف في الولايات المتحدة حيث نظم القسم الأمريكي من الأممية الأولى، ذكر ماركس أنه لا يريد أن يرفق اسمه بالنسخة المنقحة، لأن ذلك سيتطلب منه إجراء المزيد من التغييرات. في وقت لاحق نشر أوتو يوسف فيدماير ترجمة مختصرة باللغة الإنجليزية لهذا الكتيب دون الإشارة إلى موست الذي كان قد ابتعد عن ماركس وإنجلز وانضم الى جماعة يوجين دوهرينغ. الأمر المهم في تنقيحات ماركس لهذا الكتيب هو التعامل مع تطور أشكال القيمة باعتبارها تعاقبا تاريخيا لـ«مراحل مختلفة من التجارة»، وبالتالي يمكن القول بأن الفصل الخاص بالسلعة والنقد يختلف اختلافا كبيرا عن الفصل الأول من (رأس المال)، حيث تكون التحولات بين أشكال القيمة تحولات منطقية تماما. في الواقع، ان هذه النسخة الشائعة في أميركا من (رأس المال) تشبه وجهة النظر التي اشتهر بها إنجلز القائلة بأن «طريقة ماركس المنطقية» لم تكن «سوى الطريقة التاريخية، لكنها مجردة فقط من الشكل التاريخي ومن الحالات الطارئة التي تدخل عليه» (انظر المؤلفات المجلد 16،ص 506).

بعبارة أخرى، هناك اختلافات بين كتابات ماركس والطريقة التي انتشرت بها بين أنصاره ومنتقديه على حد سواء. لقد شهدت مواقف ماركس السياسية والعلمية تغيرات هامة خلال حياته. وكلنا يعرف قصة تطوره من كتابات اربعينيات القرن التاسع عشر إلى الانفصال عن ومحاسبة «وجدانه الفلسفي السابق» عام 1845 والتحول إلى الاقتصاد السياسي بعد هزيمة ثورة 1848. (ماركس، “المقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي”). ونعرف ايضا أن ماركس قضى الكثير من خمسينات وستينات القرن التاسع عشر في كتابة العديد من المسودات كـ(الغروندريسه) قبل نشره (رأس المال)، ثم أجرى لاحقا تغييرات جوهرية على القسم الأول من (رأس المال)، المجلد 1، الطبعة الثانية. إضافة الى تحول انتباهه في السنوات الأخيرة من حياته الى روسيا ومشاعيتها الريفية كما في رسالته الى فيرا زاسوليتش، والى أميركا كما في رسالته الى نيكولاي دانييلسون في 15 تشرين الثاني 1878 حيث يكتب:

«الميدان الأكثر إثارة بالنسبة للاقتصادي موجود الآن وبالتأكيد في الولايات المتحدة [...]. التحولات - التي يتطلب تفصيلها قرونا في إنجلترا- تحققت هناك في غضون بضع سنوات. [...].

الحمقى في أوروبا [...] يمكن ان يتعلموا درسا بليغا من خلال قراءة التقاريرالرسمية لليانكي».(التشديد في الأصل)

لقد قرأ ماركس تلك التقارير كما ورد في رسالته إلى دانييلسون في 19 شباط 1881، وقرر «إعادة صياغة رأس المال بشكل أساسي باستخدام الولايات المتحدة، التي أصبحت مركز التطور الرأسمالي، باعتبارها مثاله الرئيسي». ولكن لسوء الحظ، لم يتحقق ذلك بسبب وفاته عام 1883.

وإذا كان ما سبق يدل على شيء فأنما يدل على ان ماركس لم يولد ماركسيا. وكلنا يتذكر قولته الساخرة الشهيرة “je ne suis pas Marxiste” انا لست ماركسيا، في رسالته الى إدوارد بيرنشتاين بتاريخ 2-3 تشرين الثاني 1882. وكان إنجلز، وخاصة كتابه (انتي-دوهرنغ) -1877 هو الذي أسس التقليد في اطلاقه تعبير الماركسية على اعمال ماركس. وبعد وفاة ماركس بدأ تأثير إنجلز في أميركا ثم جاء دور الاشتراكي الديمقراطي الألماني كارل كاوتسكي من خلال كتاباته في التأثير على الحركة العمالية.

من بين الشخصيات الأميركية التي تأثرت بالأفكار الاشتراكية تبرز شخصية يوجين ديبس، مرشح الحزب الاشتراكي الأميركي، لخمس مرات، لمنصب رئيس الولايات المتحدة. أصبح يوجين اشتراكيا خلال فترة سجنه عام 1894 بسبب اشتراكه في أحد الاضرابات العمالية، حيث حصل على نسخة من كتاب (رأس المال) عبر مهاجر ألماني يدعى فيكتور بيرغر. لكنه وجد كتاب ماركس “مملا بشكل فظيع” وفضل كتابات كاوتسكي حسب ما أورده كاتب سيرته الذاتية راي جنجر (2007). وبالتالي يمكن الاتفاق مع ما ذكره الباحث ميخائيل هاينرخ بأن الماركسية التي ظهرت في أميركا على أيدي إنجلز وكاوتسكي وآخرين، كانت بمثابة “رؤية شاملة للعالم” للطبقة العاملة الصناعية المتنامية (تاريخ مختصر للنقد الاقتصادي لماركس 2014). ومع طرح الباحث إنغو ألبه في شكل ماركسية -  لينينية، وتحولت إلى “علم دفاعي” (طرائق لقراءة النظرية الماركسية 2018)، وغدا النقاش الجاد حول أفكار ماركس مستحيلا. ويشاركه في هذا التقييم بيري أندرسون في كتابه الصادر عام 1976 بعنوان (اعتبارات حول الماركسية الغربية). في الوقت نفسه، نجد ان أندرسون يجادل بأنه خلال العشرينات من القرن العشرين بدأت مجموعة جديدة من المنظرين الماركسيين في العمل في أوروبا الغربية. لكنهم كانوا بعيدين عن الحركة العمالية. وبدلا من مناقشة القضايا الملموسة للنظرية الاقتصادية باستراتيجية سياسية جديدة، ركزوا على مسائل علم الجمال والثقافة. اما إنغو إلبه فنجده يعارض ذلك بالقول ان عمل الماركسيين الغربيين مثل جورج لوكاش وكارل كورش وغيرهم يشكل بداية ماركسية غير تقليدية تتحدى الدوغما اللينينية والستالينية.

عرض مقالات: