رافق مفهوم العدالة تطور الفكر الليبرالي السياسي في منتصف القرن الثامن عشر وتم تسويقه في نموذجه الأيديولوجي الأوروبي على أساس الدعوة لنظام يحقق الحرية والانصاف وضمان الحقوق الطبيعية مثل حرية الاعتقاد والايمان والعمل

والتجمع و التنظيم. وقد تم عرض هذه الآراء في مؤلفات جون لوك (1632 – 1704) وهو طبيب وفيلسوف وسياسي انجليزي ومن أكبر المستثمرين في تجارة العبيد وأحد دعاة مذهب الحق الطبيعي الحر الذي تعتبر فيه الملكية غريزة أنسانية يجب أن يكفلها القانون وتحميها الدولة كالأكل والشرب والجنس، وأيضا لدى جيرمي بينتام (1748-1832) وهو قانوني وأحد دعاة الإصلاح في بريطانيا والفصل بين الكنيسة والدولة الذي كتب عن المذهب النفعي وحقوق الانسان الفردية وآدم سميث (1723-1790) وهو اقتصادي اسكتلندي ومؤلف كتاب (ثروة الأمم)، وديفيد ريكاردو (1722-1823) وهو اقتصادي بريطاني. وكان التركيز فيها على الجوانب الاقتصادية وضمان توفر المال والرفاهية عبر التملك والعمل والتقشف وعدم الاسراف. أما القيم الأخلاقية الأخرى فتركت الى الكنيسة وتعاليم الدين للخوض فيها.

وحظت الأفكار الليبرالية بشعبية واسعة في أوساط الطبقة البرجوازية الصاعدة وبين النخب السياسية والاقتصادية في القرن التاسع عشر الى الحد الذي أصبحت فيه الأيديولوجيا التي تكمن خلف سياسات الحد من تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية باعتبارها تتعارض مع القانون الطبيعي وسعادة الفرد. كما وتنظر الى الفوارق الطبقية كنتاج  موضوعي للتباين بين قدرات الفرد العقلية وقابلياته ومبادراته وحيويته ونشاطه من أجل تحقيق منافع ماديه ومالية مشروعة وهبها الخالق للفرد بشرط ان تسود المنافسة الحرة كونها المحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي تتاح فيه الفرص المتساوية أمام الجميع لتحقيق المنافع والمكاسب بعيدا عن تدخل الدولة التي تكون مهمتها حماية الفرد الاقتصادية والاجتماعية  وطبقيا هو الدفاع عن مصالح الطبقة البرجوازية. وكانت الايديولوجيا الليبرالية الرافعة الفكرية لتحطيم أسس النظام الاقطاعي الذي ساد في أوروبا وأمريكا والذي أعاق عملية تطور الرأسمالية فيها وكان ضرورة اقتصادية واجتماعية نتيجة تطور القوى المنتجة مع اكتشاف مصادر جديدة لتوليد الطاقة من البخار والانتقال من الصناعات المحلية الصغيرة « المانيفكتورة» الى بناء مصانع مثل النسيج الذي اشتهرت به بريطانيا ووجدت لها صدى أيضا في  كتابات رموز الفكر التنويري مثل جان جاك روسو (171 2-1778) الفيلسوف المصلح الفرنسي، والكاتب فولتيير( 1692-1778) التي ركزت على الجوانب النفعية لليبرالية مع تجاهل الطبيعة الاستغلالية للمجتمع الرأسمالي. وشهدت مرحلة ما قبل التنوير تغول مؤسسات الكنيسة وهيمنة مطلقة للفكر الديني في المجتمعات الاقطاعية الذي ينظر الى العدالة الاجتماعية باعتبارها مفهوما أرضيا معاديا للدين لان على الفقراء والبؤساء في المدينة والريف الانصراف الى أداء الشعائر والفرائض طلبا للغفران والخلاص الروحي لأن العدالة الحقيقية هي في ملكوت السماء أما ما يحدث في الأرض فهو قدر على الفرد وعائلته يجب القبول به مع طاعة أولياء الامر من رجالات الدولة و الدين.

ومع توطد دعائم النظام الرأسمالي وبروز دور الطبقة العاملة على مسرح التاريخ وتصاعد نضالاتها من اجل الإصلاح والتغيير الاقتصادي والمجتمعي، ظهرت الماركسية كنتاج فكري في أوروبا عكست هذه المتغيرات الطبقية  كتفاعل ديناميكي من ثلاثة مكونات أساسية الاقتصاد السياسي  الفلسفة  والفكر الاشتراكي الطوباوي وعلى شكل منظومة فكرية تعتمد الفلسفة المادية الديالكتيكية والتاريخية  وتحليل عميق للنظام الرأسمالي وربط الجوانب النظرية بالممارسة عبر بناء تنظيم سياسي يقود عملية التغيير وفق برنامج  كتبه في 1848 كارل ماركس (1818-1883) و فردريك أنجلز (1820-1895) وتبنته الأممية الأولى (1846-1876) التي ينظر اليها باعتبارها اول تنظيم سياسي عمالي في العالم. وكانت قضية المساواة والعدالة الاجتماعية في قلب هذا البرنامج في دعوته الى تحرير الانسان من قيوده وترسيخ القيم الأخلاقية والمساواة الحقة وبناء المجتمع الاشتراكي الذي يقضى على عبودية الرأسمال والاستغلال الطبقي وكبديل عما كرسته المؤسسات الدينية من فكر غيبي وقيم روحية تكرس العبودية في مرحلة سيادة الاقطاع. كما أكد ماركس على دور الصراع الطبقي كقاطرة محركة للتطور وليس القدرات الفردية والمنافسة في السوق.

وعلى ضوء هذا التحليل انتقد الفكر الماركسي مفهوم العدالة والاخلاق الذي تشيعه المدارس الفكرية البرجوازية وتعاليم المؤسسات الدينية التي كانت ومازالت تبريرا لجشع البرجوازيين وسعيهم لجني المزيد من الربح على حساب الكادحين وبالتالي هي جزء من المنظومة الفكرية المرافقة للنظام الرأسمالي الساعية لتزييف واضعاف الوعي الطبقي لشغيلة اليد والفكر ونضالها من اجل إقامة مجتمع جديد نوعيا نتيجة سيادة العلاقات الإنتاجية الاشتراكية. بل ان هناك أساسا أخلاقيا  للنضالات العمالية والاجتماعية لتحرير البشرية من شرور النظام الرأسمالي الذي يتسبب باغتراب البشر عن جوهرهم الإنساني ويشيع التفسخ الأخلاقي وتشوه الوعي الاجتماعي والتبلد والفردية وفقدان المبادرة  ومشاعر التضامن الاجتماعي والإنسانية، كما جاء في مخطوطات ماركس 1844 وكتاب «الأيديولوجيا الألمانية» حيث تصبح المهمة الأخلاقية الأعلى هي اشباع حاجات الانسان المادية والروحية وليس بتحويلهم الى كيانات متشيئة انانية وتنمي روح التنافس ولا يهمهم سوى اشباع مصالحهم الذاتية.

وقد حضي الموقف الماركسي من موضوعة «القيم الأخلاقية والعدالة الاجتماعية» بالجدل في أوساط المدارس الماركسية المتعددة ما بعد ماركس في الغرب بهدف تفهم واستقراء الموقف الحقيقي لماركس من القيم الإنسانية والأخلاقية. مثلا ان بعضها يرى في الماركسية مجرد نظرية مادية علمية للتغيير الثوري لا علاقة لها بالقيم الأخلاقية. أما الأغلبية  فترى ان ماركس خاصة في كتاباته الأول  قد قدم أدانة أخلاقية للنظام الرأسمالي وفضح شروره الاجتماعية وان الاشتراكية هي التي تحقق العدالة الاجتماعية الحقيقية حيث تنسجم قيم العدالة بين المجتمع والفرد ويتم القضاء على مظاهر الظلم الاجتماعي والاغتراب لأن ماركس يرى ان الاستغلال البشع في النظام الرأسمالي لا يتعلق بالمنظومة الأخلاقية او بمفهوم العدالة لأنها تشكل جزء من منظومة البنية الفوقية التي تعتمد ديالكتيكيا على البنية التحتية لنمط الإنتاج. أما القيم والمعايير الأخلاقية ومن ضمنها العدالة  فهي ذات طابع نسبي وليس شاملا وواحدا في مختلف العصور بل تتغير حسب النمط الإنتاجي السائد. اما المطلق فهو الصراع المحتدم بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وبين رأس المال وقوة العمل والذي لا ينتهي الا بإزالة التناقض عبر بناء النظام الاجتماعي الجديد الذي يحقق التناغم بين الانسان ومصالحه ونشاطه الاقتصادي. أي ان المفهوم الماركسي للقيم الأخلاقية مشروط تاريخيا وهي تتجلى من خلال السلوك البشري الفردي او المجتمعي وعليه تختلف معايير تقييم أخلاقية موقف ما على ماهية النظام المجتمعي و طبيعة التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية.

ولم تحظ قضايا العدالة الاجتماعية والقيم الأخلاقية بالاهتمام سواء من جوانب التحليل او التدقيق من المدرسة الفكرية السوفيتية (1917-1990) سوى إعادة تعليب وتسويق بعض ما جاء في كتابات ماركس وانجلز ولينين خاصة في ما يطلق عليه «المرحلة الستالينية»  تخوفا من أن تؤدي السجالات فيها الى حرف مسارات الصراع الفكري الذي كان احد اشكال الصراع المهمة للتصدي الى التحديات الأساسية مثل التنظيم وتعزيز التقدم الصناعي والزراعي ومواجهة الغزو النازي في فترة الحرب العالمية الثانية ومواجهة تحديات الحرب الباردة.

عرض مقالات: