حارث رسمي الهيتي
"أن الشقاء الديني هو من جهة تعبير عن الشقاء الواقعي، ومن جهة اخرى احتجاج على الشقاء الواقعي، الدين هو تنهيدة الكائن المقهور، قلب العالم العديم القلب، كما هو روح الاوضاع العديمة الروح، انه أفيون الشعب" ليس ثمة شخص من خصوم ماركس وأفكاره يذكر هذه القطعة الشعرية الرائعة لماركس والتي حملها كتابه (نقد فلسفة الحق عند هيجل) كما هي الا بعد أن يجري عليها "تشويهات" مقصودة بالطبع ليتم تصوير ماركس بعدها في أذهان الناس وكأنه ذلك الرجل الذي حمل لواء معاداة الدين ليس الا .
هذه التشويهات لا تقتصر على اقتطاع جملة معينة من نص طويل فقط، بل وصياغتها كجملة مســـــتقلة "الدين افيون الشعوب"، مفردة الشعب التي كان ماركس يقصد بها الشعب الألماني أصبحت الشعوب لتبدو وكأنها تشمل الجميع.
ويغيب عن بال هؤلاء ان ماركس الذي ولد في الخامس من آيار سنة 1818 في مدينة ترير في بروسيا ليس الوحيد الذي اطلق هذا الوصف على الدين، فهذا "نوفاليس" الفيلسوف والشاعر الألماني يكتب عن تأثير الدين الذي باسمه أستغل الانسان الألماني ابشع استغلال فيقول (دينهم المزعوم يعمل بكل بساطة مثل الأفيون ينشط، يخدر، يسكن الألم بواسطة الضعف). وكتب بعده أحد انسانيي النهضة واسمه "ايراسموس" الى نظيره "مالدوناتو" يقول وهو يصف أثر الطقوس الدينية في العصور الوسطى انها (كانت تغرق العالم في سبات عميق دونه فعل المخدرات والرهبان أو بالأحرى أشباه الرهبان الذين كانوا يسيطرون على ضمائر الناس لانهم أوثقوهم بعقد لا يحل). وكتب ايضاً قبل ماركس "هاينرش هاينه" حول نفس الموضوع مستخدماً نفس القياس حيث يقول (مرحبا بكم في الدين الذي يصب في الكأس المر من معاناة الأنواع البشرية بعض الحلو، قطرات من الأفيون الروحي، وبعض قطرات من الحب والأمل والإيمان). ويؤكد كلام كل الذين سبق ذكرهم كلام "تشارلز كينجسلي" القس في كنيسة انكلترا اضافة الى كونه مؤرخاً واستاذاً جامعياً اذ يقول عن استخدام رجال الدين للكتاب المقدس ما نصه (لقد استخدمنا الكتاب المقدس كما لو كان مجرد دليل الشرطي الخاص، جرعة الأفيون لإزاحة الوحوش من كاهل المريض المثقل بها، مجرد كتاب للحفاظ على الفقراء ملجومين). في السطور اللاحقة سنتحدث عن مسارين يجب أن لا يغيبا عن بال من يريد قراءة هذا النص لماركس، يتمثل الأول في فهم الفترة التي كان يتحدث عنها ماركس، والثانية رؤية ماركس للدين. فحديث ماركس وأغلب من كتبوا في هذا المجال ممن سبقوه أو كتبوا بعده كانت تتمحور في أغلبها حول فترة سيطرة الكنيسة على اوربا أو ما تسمى بالفترة المظلمة من حياة اوربا، فالكنيسة وحسب ما يذكره "ول ديورانت" انها أصبحت من أكبر ملاك الأراضي وأكبر السادة الإقطاعيين في أوروبا، فمثلاً كان دير "فلدا" يمتلك (15000) قصر صغير، وكان دير "سانت جول" يملك ألفين من رقيق الأرض، وكان "الكوين فيتور" (أحد رجال الدين) سيداً لعشرين ألف من أرقاء الأرض، وكان الملك هو الذي يعين رؤساء الأساقفة والأديرة وهكذا أصبحت الكنيسة جزءاً لا يتجزأ من النظام الإقطاعي.
اضافةً الى انها كانت تملك مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية باعتبارها أوقافاً لها بدعوى أنها تصرف عائداتها على سكان الأديرة وبناء الكنائس وتجهيز الحروب الصليبية بالتنسيق مع الملوك والاباطرة طبعاً. ناهيك عن فرضها للضرائب، وأبشعها كانت ضريبة العشور التي بفضلها كانت الكنيسة تضمن الحصول على عشر ما تغله الأراضي الزراعية والإقطاعيات، وعشر ما يحصل عليه المهنيون وأرباب الحرف غير الفلاحين.(1)
هذه الظروف وغيرها أدت بالفلاحين الى الثورة ضد الوضع القائم آنذاك، وهي ما تعرف بحرب الفلاحين الالمانية، او ثورة الفلاحين العظمى (1524 – 1526) وما رافقها من اعمال عنف. لم تكن شعاراتهم غير واقعية أو صعبة التطبيق فقد تركزت على (تخفيف ضريبة العشور التى كانت تؤدى إلى الكنيسة و منحهم الحق في اختيار رجال الدين في كل مجتمع من مجتمعاتهم اضافة الى منحهم حق الصيد في الأنهار التى تمر في الأراضي التى يزرعونها وفي الغابات المحيطة بهم، هذا بعد أن كان هؤلاء يشاهدون كيف تحولت المسيحية من دين للعبيد والمضطهدين والمحرومين والمعدمين الى دين يحقق كل هذا الثراء الفاحش لفئة معينة دون غيرها.(2)
هذه الثورات لم تكن بعيدة عن الدين بل كانت نابعة من صميم رؤية هؤلاء المعدمين للدين، فيروي "ول ديورانت" في قصة الحضارة الفصل السادس عشر ما نصه "ولقد أعلن عام 1476 راعي أبقار يدعى "هانز بوخم" أن أم الإله قد كشفت له أن مملكة السماء على الأرض غدت قريبة دانية ولن يكون هناك أباطرة ولا بابوات ولا أمراء أو سادة إقطاعيون، وأن جميع الرجال سيكونون إخوة وجميع النساء أخوات، الكل يشاطر على قدم المساواة ثمار الأرض، وإن الأراضي والغابات والمراعي ستكون مشاعا وملكا للجميع. وأقبل آلاف الفلاحين ليستمعوا إلى "هانز" وانضم له أحد القسس وابتسم أسقف فيرتسبورج في تسامح ولكن عندما طلب "هانز" من أتباعه أن يحضروا معهم في الاجتماع القادم كل الأسلحة التي يستطيعون جمعها أمر الأسقف بالقبض عليه وأطلق جنوده النار على الجمهور الذي حاول إنقاذه وفشلت الحركة".(3)
وهنا يصبح ما قاله ماركس في كتابه رأس المال من ان الاعمال البربرية والفضائع المقيتة التي ارتكبتها الاجناس التي تزعم انها مسيحية في جميع مناطق العالم وضد جميع الشعوب التي استطاعت اخضاعها لنيرها ليس لها مثيل في أي عصر آخر من عصور التاريخ العالمي ولا عند أي جنس مهما كانت درجة توحشه وبدائيته وفظاعته وقسوته وسفاهته.
اما رؤية ماركس للدين فانها كانت أكثر تفهمًا وتسامحًا إزاءه من موقف التنويريين الذين شنوا في القرن الثامن عشر وفي فرنسا على وجه الخصوص، حربًا لا هوادة فيها ضد الدين (المسيحي على وجه الخصوص)، إذ رأوا فيه عقبة تحول دون التقدم الإنساني نحو آفاق الحرية والعقل، اما ماركس فقد اختلف معهم من ناحيتين أولاً من حيث أنه لا يعتبر معركته الرئيسية مع الظلامية الدينية، وإنما مع العلاقات الاجتماعية الاستغلالية والقهرية التي هي أساس هذه الظلامية، ثانياً يفهم أن الدور الذي تلعبه الايديولوجيا في المجتمع قد يجعل الدين أحيانًا قوة تمردية، بل وثورية، في أوضاع محددة، كما حصل في تمرد الفلاحين في المانيا الذين ما أن انطلق حراكهم حتى كتبوا على راياتهم وبكلمات واضحة وصريحة (يا رب أيد عدالتك السماوية) وهم الذين طالبوا بأن يتم الاعتراف بظروف المساواة التي شهدتها المسيحية الاولى فتصبح قواعد سائدة في المجتمع، مستنتجين من تساوي البشر أمام الله تساويهم امام القانون اضافة الى تساويهم بالثروات (4).
كما بين "توماس مونزر" فقيه ثورة الفلاحين حين قال : ان الجنة ليست عالماً آخر، وينبغي البحث عنها في هذه الحياة، الحياة الدنيا، وواجب المؤمنين هو اقامة هذه الجنة – مملكة الرب – على الارض هنا وليس الشيطان سوى جشع الانسان واهوائه الشريرة .
وقد شخص ماركس ايضاً واحدة من اهم التناقضات التي تسجل على الدولة المسيحية آنذاك وهي استحالة تحقيق مساواة عمومية بين الافراد في الحقوق، فالدولة التي تقوم على اساس ديني لا يمكن ان تنظر الى البشر او الى المواطنين نظرة واحدة دون استثناء فتعلقها بدينها الخاص والمذهب النوعي لهذا التدين يدفعها الى ان تحابي الافراد على اساس ديانتهم ومذهبهم في اقل تقدير.(5)
ان ماركس الذي اعتبر ان الدين هو النظرية العامة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية، منطقه في شكل شعبي، روحانيته، حماسته، عقوبته المعنوية، تتمته المهيبة، اساسه الكوني لأجل العزاء والتبرير، لم يكن مناهضاً للدين بالطريقة التي يصفه بها خصومه بل انه كان يقف ضد الوضع الديني لألمانيا في القرن التاسع عشر.
هنا علينا أن نعرف جيداً موقف ماركس من الدين، وما كان يعنيه حين وصفه بالأفيون، فالأفيون جيد في التخدير الطبي، سئ جداً في الأمور الأخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
1. طغيان الكنيسة في العصور الوسطى الأوروبية / مصطفى انشاصي
2. كارل ماركس ، مسألة الدين / سربست نبي
3. نص على الانترنت
4. انغلز ، حرب الفلاحين في المانيا
5. كارل ماركس ، مسألة الدين ، مصدر سابق