خريف عام 1982 غدا الرفاق العاملون في محطة القامشلي في سباق مع الزمن، فبالإضافة إلى الرصد المستمر من قبل المحطة من الجانب السوري؛ كانت ترد من مصادر المحطة من الجانب التركي؛ وكذلك من الأحزاب الكردية في تركيا الصديقة للحزب معلوماتٍ مفادها أن السلطات التركية قد شرعت بنصب الأعمدة لإنارة حدودها البرية مع سورية ليلاً في الأماكن التي يقتنص المهربون الفرص فيها ويستخدمونها في عمليات التهريب بين البلدين؛ وفي حالة إتمام العملية لا يُصعّبْ عبور الحيوانات خلالها من القامشلي إلى تركيا فحسب، بل قد يكون من المستحيل عبورها بدون الخسائر البشرية والمادية والتي كانت المحطة تتجنبها على الدوام؛ فباتت المحطة ومعها مفرزة الطريق والرفاق في محطة تركيا وجهاً لوجه أمام مهمة اقتناص كل الفرص وشحذ جميع الإمكانيات لضخ أكبر كمية ممكنة من السلاح نحو كوردستان العراق إلى أيدي الأنصار الشيوعيين قبل إتمام هذا المشروع.
سبق ذلك ببضعة أشهر أن بسطتْ الجهات التركية سيطرتها الكاملة على الحدود المائية بين البلدين بوجه عبور الحيوانات؛ وبينما كانت قد صدَّتها بوجه عبور الحيوانات؛ إلا أن ممراتها لعبور المفارز الاعتيادية (بدون الحيوانات) ظلتْ سالكة وإن بشكلٍ أخف.
ومن الجدير بالذكر، أن نهر دجلة الفاصل بين سوريا وتركيا تُقدَّر مسافته طولياً بـ(50 كم) تقريباً. وهو يبدأ من المثلث الحدودي (العراقي ـ السوري ـ التركي) من عند قرية (چم شرف) السورية وبمحاذاة النهر مروراً بالقرى "قصروك، زهيرية، مزري وعين ديوار وإلى (الجسر الروماني) وتقابله من الطرف التركي مدينتا (سلوبي والجزيرة)، وكانت هذه المنطقة من المناطق الحيوية لفتراتٍ طويلةٍ لتهريب الأشخاص والحيوانات بين الدولتين واستمرت إلى صيف عام 1982 م. وقد استُغلَّتْ بشكل جيد وبكثافة لعبور الرفاق وكذلك السلاح من قبل الحزب الشيوعي العراقي. وقد تكللت كل المحاولات على هذه الممرات بالنجاح إلا حالة واحدة: أستشهد فيها الدليل (عبد الله سيدا) (وهو من أكراد تركيا) وجرح الرفيق أبو هبه.
لقد أمسَت الممرات المائية محفوفة بالمخاطر الجدية واكتنفتها مصاعب جمة أمام عبور الحيوانات جراء الإجراءات التركية المتشددة عليها، مما حدا بالمهربين على التوجه نحو الحدود البرية وزيادة زخم نشاطهم وعملياتهم هناك.
بعد تلك التطورات على الحدود أنصب جلّ اهتمامات المحطة على الحدود البرية لعبور الحيوانات، والذي يعنينا هنا هي المنطقة الواقعة بين قرية عين ديوار الواقعة شمال (المالكية) والقرى القريبة من حقل "رميلان" الواقعة في جنوبها؛ تفصل بينهما مسافة تُقدَّر طولياً بـ(20 كم) تقريباً؛ وهي المنطقة المعنية في بعض أجزائها بالإنارة الليلية؛ ومنافذ عبورها أكثر ملائمة لعبور الحيوانات والمفارز الاعتيادية. وكانت تُستغل من قبل المعارضة التركية وخاصة الأحزاب الكردية ومن قبل الحزب الشيوعي العراقي، والمهربين أيضاً، حسب ما يقول الرفيق سعيد.
للمهربين في الجزيرة عالم خاص، لستُ بصدد التوغل في تبيان معالم مهنة التهريب لكن لابدَّ من أنعطافةٍ مقتضبةٍ عليها؛ إنها مهنة محفوفة بالمخاطر، تمتهنها عادة شريحة اجتماعية تفتقر إلى التأهيل لسوق العمل وغير متعلمة ...الخ، وتستوطن في الغالب في القرى التي تقع على تخوم الدول، وتعيش على هامش الحياة الاجتماعية، وتشترك حالتها مع القمار واللصوصية والممارسات الأخرى الشبيهة من حيث الإدمان، لممارسيها بيئة داخلية خاصة، لها مفاهيمها وأعرافها وقيمها منها: تحريم سرقة بعضهم البعض، أتقاء وشاية أحدهم على الأخر، التعاون عند المحن، الثقة المتبادلة ولكلمة الشرف بينهم وقع كبير...الخ؛ هذا فيما يتعلق ببيئتهم الداخلية؛ أما الخارجية فليس فيها القيم فحسب، بل يسودها الكذب، المراوغة، السرقة، نكث العهود ...الخ، ومن البديهي ألا يخلو هذا الوسط من الذين يتوسمونَ بالصدق والوفاء والشهامة وإن بأعدادٍ ونسبٍ أقل. وهي كبقية المهن لها تخصصاتها في التقنية (الحديث ليس عن نوع البضاعة) فالذي يتخصص بتهريب البشر لا يستطيع تهريب الحيوانات؛ أما الذي يتخصص بتهريب الحيوانات فيستطيع تهريب البشر أيضاً، ولكل أسلوب من الأسلوبين تقنية خاصة به في التعامل مع حراس الحدود. تلازمهم عادة أربع سمات سواء كان دليلاً أو مهرباً وهي: الشجاعة، الكتمان، الثقة والدلالة؛ بينما تتوفر تلك السمات جميعها في معظم الحالات عند أدلاء الأحزاب بحكم التزاماتهم الحزبية من جهة وانتماءاتهم العقائدية للفكر السياسي الذي ينتمون اليه من جهة أخرى. إلا أنها تتفاوت من مهربٍ لأخر على سبيل المثال: الشجاعة؛ تجد بينهم من يتمسك برباطة جأشه عند المخاطر ولا يترك من معه من الأشخاص أو البضاعة التي أؤتمن عليها، وتجد الأخر يفر ويترك من معه وينفذ بجلده في أول لحظة يلوح فيها الخطر، وكذلك هو حال الثقة عند المهرب فهو يتفاوت من الواحد للأخر.
كانت المحطة تستعين في عبور (تهريب) الرفاق من الملتحقين الجدد بأدلاء (ليس بمهربين) من الأحزاب الكردية التركية الصديقة للحزب، والتي بينها وبين الحزب التعاون المشترك والمساعدات المتبادلة، وهم على سبيل المثال (ك.و.ك ـ پ.ش.ن.ك ـ د.د.ق.د). وإذا صادف عبور الرفاق الملتحقين الجدد مع المهربين فيكون في كل الحالات برفقتهم الرفاق من مفرزة الطريق. أما ما يتعلق بإرسال الحمولات مع الحيوانات؛ كانت ترسل مع (المهربين الذين هم موضع ثقة المحطة) وإلا كان دائماً برفقتهم الرفاق من مفرزة الطريق.
في الجزيرة التي تشكل قضاء القامشلي وتوابعه جزء منها، ارهاط من المهربين ولكلِ رهط عصب رئيس. هو زعيمهم ويلتف حول الرهط أشخاص ثانويون، يتوسع الرهط أو يتقلص. هناك من يلتف حوله ومن ينفك عنه حسب الظروف؛ لكن يبقى الزعيم هو أشبه بالأب الروحي لهم. القرار هو قراره في النهاية. الصفقات المهمة والكبيرة تتم في الخفاء عادة وفي البيوت البعيدة عن الشبهات.
كانت المحطة آنذاك تتعامل مع أغلب المجاميع المعروفة هناك. تولي بعضها الثقة والرعاية التامتين، وتولي الأخرى الثقة والرعاية أيضاً، مع شيء من الارتياب. اللقاءات مع المجاميع في المالكية كانت تتم عادةً في بيوت بعض الرفاق السوريين غير المعروفين. وكانت أبرز تلك المجاميع وقتداك :
ـ مجموعة برهان مراد وشقيقه محمد وأخرين هم من (أكراد تركيا) وصديقهم في العمل كنعان وهو من (أكراد سورية). كانت للمحطة الثقة العالية بها، ولقد قدمت هذه المجموعة الخدمات الكبيرة للحزب الشيوعي العراقي من أوائل الثمانينيات في القرن الماضي إلى نهايته كان منفذها من أفضل وأمن المنافذ لقرب وصولها إلى جبل جودي. لقد عبرت مجاميع كبيرة من رفاق الحزب وكميات كبيرة من السلاح كذلك؛ دون أية خسائر تذكر. في صيف عام 1982 قامت مجموعة غير معروفة (وربما مشبوهة) باستخدام هذا المنفذ وأحدثت فيه بعض المشاكل بهدف تخريبه ليس إلا، مما حدا ببرهان لتركه فترة من الزمن وارسلتْه المحطة إلى دمشق مؤقتاً لإبعاده، ومن ثم أُعيد اليه النشاط لكن بوتائر أبطأ وفي إطار الأعمال الخفيفة كالبريد وعبور المجاميع الصغيرة. (نهاية هذه المجموعة شبيهة بدراما يمكن الكتابة عنها بإسهاب).
ـ مجموعة (محمد حجي خليل) وهي من أقدم المجموعات التي عملت مع الحزب الشيوعي العراقي، حيث نقلت كميات كبيرة من الأسلحة على ظهور الحيوانات من القامشلي إلى تركيا و نقلت السلاح والرفاق بين مناطق (نصيبين وشرناخ) كذلك ومن هناك إلى كوردستان، إلا أن نجم هذه المجموعة بدأ بالأفول بعد اعتقال السلطات التركية لمجموعة من الرفاق بعد الانقلاب العسكري عام 1980م وتم تسليمهم للنظام العراقي وبعده بفترةٍ وجيزةٍ أُعتقل الرفيق (محمد شيرواني) أيضاً، كل تلك الإخفاقات أدت بالمحطةِ إلى صرف التفكير عن منفذ نصيبين ـ القامشلي الذي كان يمر الرفاق من خلاله بالجوازات العراقية الرسمية؛ إلا أن هذه المجموعة قد استأنفت نشاطها من بعد؛ لكن بوتيرة أخف من السابق إذ أنحصر نشاطها بنقل الرفاق والسلاح على ظهور المهربين ومع الحيوانات أحياناً، وإن كانت بأعدادٍ قليلة لكنها كانت ذات فائدة كبيرة. غير أن المحنة التي ألمَّت بهذه المجموعة لم تقل عن محنة الأخرين! (يمكن الكتابة عنها فيما بعد).
ـ مجموعة حامد وأبنه، ولم تتعامل المحطة معها إلا مرة واحدة. كان لهذه المجموعة منفذ قرب قرية الجارودية في (المالكية) ولم يقبل (حامد) مساهمة أي شخص غريب أو من المجاميع الأخرى معه بذريعة الحفاظ على سرية الطريق؛ وبما ان وضعه لم يكن يوحي للمحطة بالاطمئنان ليس من الناحية الأمنية وإنما لأسباب تتعلق بالأمانة! حاولت المحطة بمختلف الوسائل والحجج إقناعه بأن يصطحب معه المهرب (برهان) الذي كان موضع ثقة المحطة إلا أنه كان يرفض ذلك بشدةِ؛ ولم يكن يمانع عبور السلاح والحيوانات على مسؤولية مجموعته وحدها، إلا أن انعدام الثقة به كان الوازع لعدم استمرار التعامل معه.
ـ صبري: وهو فرد واحد كان يسكن في قرية (زهيرية) على نهر دجلة، منفذه كان يقع على المثلث الحدودي ويعتبر من أفضل المنافذ من حيث قصر طريقه وأمنه، فكان باستطاعته إيصال الرفاق إلى قرب جبل (بي خير) مباشرة والعودة في نفس الليلة؛ إلا أن مَنفذه لم يكن يتحمل أكثر من عشرة رفاق؛ لقد عبرت من خلاله مجاميع صغيرة بضع مرات بنجاح. (ذاكرة الرفيق سعيد تخزن الكثير عن هذا المهرب يمكن الكتابة عنه فيما بعد).
في معقل المهربين كانت أيضاً مجاميع أخرى صغيرة وأفراد أحياناً يقومون بأعمال بقدر حجمهم لا أكثر، كانوا أشبه بأصحاب الدخل اليومي، وأحياناً ينتقلون بين المجموعات الكبيرة حسب ظروف العمل، لم يكن من النادر أن يعتقل واحد من تلك المجاميع الصغيرة أو مهرب منفرد غير مرتبط بالأخرين من قبل السلطات التركية، وتتم مساومته لأطلاق سراحه و يرجع إلى سوريا لتزويد الجهات التركية بالمعلومات عن الأطراف التي تستخدم الحدود للتهريب سواء كان للأغراض السياسية أو التجارية؛ ويصادف أن يعتقل نفس المهرب عند عودته إلى سورية من قبل الأجهزة الأمنية السورية ويدلي باعترافاته ويبدي استعداده للتعاون معها ويتحول إلى عميل مزدوج وبمعرفة الطرفين (السوري والتركي) و محمي من قبلهما! كانت تلك النماذج تشكل خطراً على تحركات محطة القامشلي؛ لذلك اتخذت المحطة الحذر في التعامل معها، وكان للرفيقين سعيد وخالد سليمان الصلة مع بعضهم ويستقيان منهم ما يفيدهما من المعلومات عن الحدود وأمور أخرى مقابل بعض (الهدايا) البسيطة.
.... يتبع
مدينة القامشلي في ذاكرة الحزب الشيوعي العراقي (5)
- التفاصيل
- عادل أمين
- فضاءات
- 554