و لا تبرّجن تبرج الجاهلية . .

                                                                                                                                                                                                       

انتقلنا الى الكاظمية التي كنّا في السنوات السابقة نزور مراقدها المقدسة في ايام الزيارات و في ليالي الجمعة او عند مجئ اقاربنا من الفرات للزيارة فقط، و بقدر ما كانت الكاظمية مجهولة لنا نحن الصبيان . . كانت جذّابة من خلال ما كنّا نسمع من احاديث الكبار و العوائل و النساء و مايرووه من احداث و قصص تأريخية و معاصرة عن بطولات و مواقف وطنية لأهلها الشجعان . .

كانت حيطان شوارعها آنذاك تشهد على وجود صراعات سياسية حادة هناك، مما مكتوب عليها بالبوية الحمراء و غيرها من وسائل الكتابة على الجدران، فكانت مزدحمة بالشعارات و المطالبات و النداءات، مثل :

" الحياة و الحرية للبطل منذر ابو العيس و رفاقه الشجعان" ، " السلم في كردستان "، " نطالب بحل عصابات الجَتَه في كردستان" (الجيم بثلاث نقاط، و كانت عصابات كردية شكّلتها و قادتها استخبارات الزعيم لمواجهة الثورة الكردية، و هي غير الجاش)، " اطلقوا سراح السجناء السياسيين" . . و كانت كتابات اخرى بالاسود ممسوحاً عليها بانواع مختلفة من البوية بحيث لايمكن قرائتها، تركّزت على ماهو مستل او محرّف من آيات القرآن او من فتاوي على رأسها فتوى الحكيم (الشيوعية كفر و الحاد) التي زادت الصراعات هناك حدة . .                   

كان بيتنا الجديد حديث البناء مكوّناً من صالة و غرفة طولانية مقسمة الى غرفة ضيوف و غرفة طعام، غرفة نوم الوالدين و غرفة في الطابق العلوي لمنام الاولاد و البنات، كانت تقابلها غرفة لم يكتمل بناؤها و قفلت بابها . . و للبيت حديقة امامية جميلة لابأس بكبرها و حديقة خلفية صُممت لزراعة خضروات بيتية، عملنا و خاصة مفيد و محمود في احد جوانبها بيت خشبي صغير له باب للمرور و صارت لتربية الدجاج و مصدراً للبيض . .

و كان البيت واحداً من بناءٍ تؤم سكن في البيت الثاني منه نقيب متقاعد (ابوسلام) و عائلته الكبيرة، و كان قد شارك بفاعلية في حرب فلسطين و قيل انه كان آمراً للمقاومة الشعبية في الفرات الاوسط و في الديوانية تحديداً، و قد احيل على التقاعد اثر حل المقاومة الشعبية و احالة مئات من الضباط اليساريين على التقاعد . .

كان البيت يقع في المنطقة المبنيّة حديثاً الممتدة من جنب (معهد الزهراء المهني للبنات) المطل على ساحة الزهراء عند رأس جسر الأئمة . . و تمتد المنطقة الى بيت قائمقام الكاظمية و (متوسطة الكاظمية للبنين) و الى جنب (ثانوية الكاظمية للبنات) . . و كان عدد من شوارعها لايزال غير مبلّط بعد لكونها منطقة جديدة، و نظراً لكونها جديدة ساعدنا ذلك على اقتناء تلفون لوجود عدد من كابلات التلفونات غير مشغولة.

كانت الكاظمية آنذاك ملجأً للعوائل اليسارية و الديمقراطية الهاربة من انواع الملاحقات و الاعتداءات للعناصر المتطرفة كما مرّ، اضافة الى عوائل الضباط الديمقراطيين المحالين على التقاعد لأسباب سياسية كما جرى الحديث، فكان في محلتنا يسكن اضافة الى النقيب ابو سلام الذي اشتغل بالمقاولات، الرائد سامي (ابو عماد) الكردي من اهالي السليمانية المحال على التقاعد و الذي فتح دكاناً لبيع المواد المنزلية باسعار متهاودة قابلاً بالبيع بالدين وفق سجل و بتسديد شهري الذي كان مساعدة كبيرة لذوي الدخل المحدود . . اضافة الى النقيب الكردي المتقاعد من السليمانية ابو سولاف . . وكانت تسكن خلفنا الفنانة المعروفة (ناهدة الرماح) مع عائلتها و اطفالها، اضافة الى وجوه معروفة لفئات متنوعة في المجتمع البغدادي آنذاك . .

و قد فرحت كثيراً لإمكاني استخدام الدراجة الهوائية للتجوّل و التعرّف على المدينة، التي كانت وسيلة لقضاء الوقت و التسوّق و شراء الحاجات الضرورية للبيت، اضافة الى التجوّل بدافع الفضول و حب المعرفة و الإطلاع على المدينة و مرافقها، المدينة التي كانت تشدّني اليها اكثر . . 

الكاظمية مدينة كبيرة تشمل حواري و محلات قديمة كمحلة القطانة و الشيوخ و الدبخانة الى المحلات و الحواري القديمة المطلة على شارع المحيط القديم، و اضافة الى قِدمْ بيوتها، فإن طراز بناء بيوتها و زخارفها اضافة الى انواع الروايات عنها و عن اهلها و مهنهم، كان يشير الى مدى تأريخيّتها و دورها الهام الإجتماعي و السياسي و التأريخي في عموم البلاد . . 

اضافة الى انها احتوت على مناطق و محلات جديدة منذ تواريخ متنوعة . . من المحلات الواصلة بين شارع الفجر الممتد من رأس الجسر العتيق و معمل فتاح باشا و مستشفى حماية الاطفال في باب الدروازة و المتفرع منه الى تانكي الماء، و الى ضفاف النهر . . و البيوت الجميلة الاخرى المطلة على كورنيش الكاظمية بين جسر الائمة من المنتزه الحديث لأمانة العاصمة (منتزه 14 تموز) و مدرسة دجلة الإبتدائية النموذجية و مديرها المربيّ الذي اشتهر اسمه في المجالات التربوية و الإجتماعية السيد (جعفر سلماسي) . . الى ساحة الشاعر (عبد المحسن الكاظمي) .

اضافة الى منطقة النواب ثم الدباش و الحرية و الشعلة . . و شوارعها الرئيسية المكتظة دوماً بالناس و بانواع السيارات المتنوعة الاحجام و سيارات الحمل و الحافلات . . بمزاميرها التي تصم الأذان احياناً، حيث انواع المعامل الصغيرة و الورش و المهن الضرورية و الفيترية و الفنادق الصغيرة، و فروعها الجانبية التي تبدأ بمحلات الخضروات و الفواكه و الحلويات، و المكتظة بانواع مئات و آلاف البيوت الصغيرة . . 

و قد لعب وجودي كطالب في (متوسطة الكاظمية للبنين) التي كنت فيها من الطلبة المتفوقين، لعب دوراً كبيراً في تكوين صداقات مع طلاب متنوعين من المتوسطة و مع عوائلهم بمساعدتي الدراسية لأبنائهم و زيارتهم، اضافة الى وجود مفيد و محمود في (اعدادية الكاظمية للبنين) قرب تانكي الماء، في وقت كان يمكن فيه القيام بصداقات واسعة لطيبة اهل الكاظمية و روحهم الإجتماعية، و يمكن لأن عدد كبير منهم كانوا من عوائل ديمقراطية مسالمة في الحياة العامة لايتدخلون بالاصل و الفصل، و يشعرون بأهمية الصداقات و دورها في نمو الصبيان و علاقات العوائل التي تقوم بحمايتهم من اوساط ضارة في ذلك الزمن الذي احتدم فيه الصراع السياسي و صار يتخذ ابعاداً عنيفة كما سيأتي . .

و اضافة لغالبية العوائل الطيبة، يمكن ان تشاهد انواع من عوائل اخرى و انواع اخرى من العلاقات، منها عائلة تركمانية طيّبة صديقة لجيراننا، ارتفعت في يوم ما اصوات شجار عنيف طغى عليه صوت الأب القليل الظهور و هو يصيح :

ـ و شنو يعني . . هي عشيقتي و انت زوجتي ؟؟ احنا نعيش سوا لأننا عايشين قصة حب، حب كبير اوصلتني به الى مسؤول قسم في معمل الطحين . .

و عائلة من اصول تركية من اسطنبول كان الاب رياضي الجسم مدرس رياضة ولاعب بوكر دولي، استفاد من البوكر ليحسّن دخله الشهري، تزوجت ابنته من شاب فرنسي تعرّفت عليه في مسبح الـ (واي. ام. سي. اي.) الواقع في السعدون و هاجرت لتعيش معه في باريس . . و كان الابناء و خاصة جعفر، كانوا معنا زملاء في الصف طلاباً مؤدبين و اصدقاء اوفياء، استمرت صداقتنا الى نهاية الستينات بعد ان انتقلوا الى بيت ورثوه من جدتهم في شارع 52  . . حيث ازدادت صداقتنا وثوقاً بعد ان جمّعتنا مقاومة الكاظمية لإنقلاب شباط الاسود . .

و من الطرائف التي مررت بها، ما حدّثني به اياد الذي كان احد ابناء عوائل المنطقة في نهار كنّا ندرس فيه معاً، حين قال لي ان مصاريف الكهرباء تضاعفت عندهم بشكل غير معقول و انهم رفعوا شكوى الى ادارة كهرباء المنطقة التي اجابتهم بعد تدقيق القوائم (انها صرفياتكم وفق القوائم الاصولية الموجودة عندنا و عندكم بعد قياس الكهرباء و اننا استبدلنا جهاز القياس بجهاز جديد رغم ان القديم كان يعمل بشكل منتظم، اكراماً للحجّي الوالد) . .

و قال انهم (طلبوا منّا تدقيق ذلك من خلال قياس التأسيسات التي يمكن انها تسرّب الكهرباء، او هناك من يسرق منكم الكهرباء بعمل (جطل)، هو يستهلك الكهرباء و انتم تدفعون المصاريف . . و نبّهنا الى انهم بعد التدقيق، لاحظوا انه تتضاعف عندكم الصرفيات في الصيف فقط، هل تستخدمون اجهزة تبريد متطورة عالية الصرف ؟؟ و طبيعي لم تكن عندنا مثل تلك الأجهزة و لكن . . )

وقال،( ذات ليلة صيفية و كنّا ننام في السطح، اشتد الحرّ و سكنت فيها الريح و نشط (الحرمس) الذي لم يدعنا ننام من قرصاته و طنينه، كنت احاول النوم في الصالة و افتح المبردة في الاسفل . . نزلت الدرج و تفاجأت بأن هناك ضوء في الاسفل . . فأخذت حذري و اخذت انزل الدرج دون احداث ضجة حاملاً عصا جديّ و كانت المفاجأة . . رأيت جدتي فاتحة الثلاجة الكهربائية على مصراعيها و نائمة عندها !! . . و صاحت :

ـ ها اياد شكو عندك بنص الليل نازل جوّه ؟؟

ـ نزلت من الحر حتى افتح المبردة و انام في الصالة . .

ـ تفتح المبردة ؟؟ و ماتحسب المصاريف ؟؟ هاي المبردة تصرف صرف بس الله يدري شكد، يجوز هاي قوائم الكهرباء المرتفعة منها . . آني بالصيف كل مايزيد الحرّ افتح الثلاجة و انام عدها و هي هادئة و ماتصرف هالصرف . . !! )

و بينما كنا نضحك على السالفة . . سمعنا الجدة و هي تصيح بصوت عالي :

ـ ولج (فرقد) بدّلي الدشداشة مالتج . . هسه الناس شتكول علينا ؟؟

ـ بيبي آني رايحة الى بيت اختي و لابسه عباية و دا تشوفين . .

ـ ولج عليّ آني !! بدّلي الدشداشة البرلون الشفافة . . هاي حتى لباسج الاسود مبيّن منها . . مكصوفة الركبة آني جنت بعمرج سويّت العجايب، عبالج بس انتي تدوّرين مغامرات، جنت امشي بدشاديش كبل الشفافة و افتح العباية . . لعد شلون كدرت اقفص جدّك اللي جان عنتر زمانه بحزامه الخمس اصابع و خنجره !! بس انت بعدج زغيّرة على هالسوالف . . افتهمتي ؟؟ ولج جيراننا قالت انت من تمشين صحيح لابسة عباية لكن نص كفشة راسك طالعة و دائماً فاتحتها! كذب ؟!

و كانت النكتة الكبيرة التي صادفناها انا و اياد و نحن في الشارع، هي النقاش الحاد بين المحامي الشايب ذي الجلباب و السترة، السيد اسود مع ابنه في الشارع :

ـ ولك شنو انطيك يوميّة ؟؟ مو هسه انطيتك ؟؟

ـ لأ يابه انت انطيت اخويه اليومية !!

ـ و لك انت ابن من ؟؟

ـ آني ابن مليحة . .

كان المحامي متزوجاً من ثلاث نسوان و بنى بيته الكبير ذا الطوابق الثلاثة الواسعة لتكون كل زوجة و اطفالها في طابق معزولة عن الأخريات و مشاكلهن . . و لكن بعد ان كبر سنه و اثر الحاحه في الجنس صار عنده بنات و اولاد كثيرين، من عمر الجامعة الى اعمار الروضة و كان ينسى اسمائهم و يختلط عليه هذا الولد من اية امرأة منهن، و تختلط عليه الأسماء التي كان يدققها يومياً في وثائق النفوس في جرارات مكتبه حيث كان يعمل محامي و دلاّل بيوت . .

و لابد من القول بانه مما يجلب الانتباه روح التضامن الاجتماعي و المحبة و تداخل القرابات بين اهالي الكاظمية و محبتهم للعوائل و للساكنين الجدد الهاربين من العنف و الضغوط السياسية التي كانت تعاني منها محلات و حواري بغداد آنذاك . .

كانت متوسطة الكاظمية اضافة لكونها مؤسسة تعليمية، الاّ انها كانت مكاناً للتعارف و للصداقة، حيث غمرت جوّها روح التسامح و المحبة، الاّ انها ضُربت ضربة كبيرة عندما نقلت وزارة التربية مديرها اليساري المربي المعروف (عبد الجليل مطر) ـ ابن عم الضابط المناضل سعيد مطر ـ و استُبدل بمدير جديد عنيف اطلق عليه الطلبة لقب (عريف عودة) عريف عودة مداوم اليوم، عريف عودة طلع، عريف عودة خابر الأمن . .

حتى نسينا اسمه الحقيقي، لمطاردته و إخباره رجال الأمن عن الطلبة اليساريين الناشطين في المتوسطة ليعتقلوهم، رغم انهم لم يُثيروا مشاكل تعكّر سير الحياة في المتوسطة و لكن كوقاية كما كان يقول . . و كانت قمة صلاته الغير محترمة تلك، اعتقال الأستاذ و الوجه الديمقراطي الأستاذ (الحداد) لنقاش سياسي دار في غرفة المدرسين . .  

و في اعمارنا تلك كان مايشغل تفكيرنا موضوع الغرب واوروبا بدعاياتهم الجذابة و افلامهم الملوّنة الجميلة و سياراتهم الفارهة و منتوجاتهم فائقة الجودة كما انتشر بين الناس كـ (احسن حذاء هو انكليزي و بالعامية ـ قندرة كلاصية ـ )، اضافة الى الأنطلاق اللامحدود والأختلاط و غزو الفضاء و غيرها دون ذكر للروس السوفيت بافلامهم الحربية و انتصاراتهم على النازية و تحريرهم للعديد من الشعوب و انجازاتهم و نجاح رائد الفضاء (غاغارين) و قبله الكلبة (لايكا) . .

مما ادخل في عقولنا اننا لانعرف شيئاً عن عالمنا بفعل السياسة الحكومية و التطرف بالدين و بسلطة الأخلاق المحافظة . . و كان ذلك و غيره يثير عندنا روح الفضول الى معرفة ماهو التحرر، هل هو انقلابات عسكرية و هل هو بالقوة و الجيش فقط ؟؟ و ماهو دور الدين ؟؟ . . و لماذا لدينا ذلك الكبت الإجتماعي . . هذا عيب و هذا حرام ؟؟ و من هم في عليّة المجتمع و الحضرة الدينية يعيشون علاقات في الظلام شئ و في النهار شئ آخر، اليس هذا نفاق، و لماذا يلجأ الناس الى النفاق . . ؟؟

كان العديد ممن في اعمارنا هناك، ابناء عوائل من التجّار و الكسبة و من الباحثين عن مهارات و مهن لتكون خير سند لهم في حياتهم فيما لم يجدوا وظيفة حكومية او صاروا في اعمار المتقاعدين، اضافة لأبناء من عاشوا على التجارة بانواع و درجات متنوعة، و كانوا مستعدين لأنواع المغامرات كمغامرة ابن عائلة البياع ابن المتوسطة في مساعدة خاله الذي حصل على امتياز شاحنات المرسيدس، و انكب على سياقة الشاحنات من برلين الى بغداد عبر تركيا، و كان يحدّثنا عن الحياة الخيالية هناك قياساً بحياتنا، و الصديق فائق الذي كان يُعدّ اوراقه للهجرة الى اميركا ليحقق حلمه في ان يصبح طيّاراً مدنياً و ان الدول الإشتراكية لاتسمح بالهجرة اليها . . في وقت لم تكن فيه معاهد لإعداد و تخريج الطيارين المدنيين في العراق . .

و كانت تتشكّل صداقات متنوعة بين الشباب الصغار، كان لولبها مفيد و محمود، للقيام بسفرات او للسباحة في النهر صيفاً او للقيام بفعاليات كفعاليات التمثيليات الفنية التي كانت تُقام في بيت كاشي و كانت من اعداد و اخراج الطالب (قاسم الملاك) الذي صار فناناً مسرحياً بارزاً بعدئذ في البلاد . . و كانت العوائل تشجّع ابنائها على تلك الفعاليات التي تملأ فراغ الشباب و تبعدهم عن تيار السياسة الجارف الذي كان يهدد باكتساح الجميع . . كانوا يريدون من ابنائهم ان يدرسوا ويتخرجوا و تصبح بأيديهم مهناً ليؤمنوا عليهم من مخاطر الضياع و العوز . .

و فيما كانت تتزايد اعداد العوائل اليسارية الهاربة الى الكاظمية . . اعتاد وجوه محلة " بستان الشيخ حسين" ان يلتقوا في مساءات الخميس على الجمعة الصيفية في بيت التاجر (الدهوي) الذي كان معلما و ترك التعليم و عمل على مساعدة والده و تعلّم صنعته و صار تاجر حبوب ووجهاً معروفاً في مناطق الفرات بحكم انتمائه العائلي في مناطق الشامية.

و ازدادت مكانته الإجتماعية لكونه كان من نشطاء مجالس السلم التي انتشرت في تلك السنوات في عموم مناطق العراق، والتي كانت تدعو الناس الى العمل من اجل الإبتعاد و الخروج من الأحلاف العسكرية ومن اجل اتباع سياسة عدم الأنحياز . . بعد ان عرفت الناس وبشكل واسع اهمية البلاد للأقتصاد الدولي و كم هي ثرية، اضافة لما حصل اثر ثورة ثموز 1958 من انزالات عسكرية في المنطقة . . رغم حزن الناس على مقتل الملك الشاب فيصل الثاني . .

و كان مجلس التاجر الدهوي الذي اعتادوا ان يكنوه بـ (الشيخ) ينعقد عادة في حديقته الواسعة الملاصقة لمبنى المدرسة المتوسطة، الحديقة ذات عطر الشبوّي الذي كان يفوح عند الغروب، حيث يعمّر الموقد المبني من حجر بإيقاد الفحم لإعداد الشاي والقهوة والأركيلة للضيوف والتي كان يشرف عليها احد عمّاله المهرة . .

و كان الوالد و صديقه حكوّمي من المداومين على حضور مجلس الشيخ الأسبوعي بعد تقديم المحامي كاظم الطائي لهما للمجلس، لتبادل اخبار اوضاع البلاد و تطوراتها و مناقشة الأفكار و لمناقشة الأساليب الأحدث في التعامل مع الابناء الشباب في تلك الظروف، و من ذلك المجلس الاسبوعي تعرّف الوالد على دائرة اوسع من العوائل التقدمية المعروفة، و كنت مرافقاً لوالدي في ذلك المجلس و اسمع و افكّر بما يقولوه و يناقشوه . . 

في وقت كانت الكاظمية فيه تعيش اوقاتٍ متوترة متنوّعة، من تزايد التعرّض للسافرات والتعرّض لهن بحجج عدم ضبط الحجاب، ومن تزايد الشعارات المخطوطة على الحيطان التي كان يتصدّرها شعار فتوى المرجع الاعلى الحكيم (الشيوعية كفر والحاد)، وملصقاته بصورته البادي فيها بملابسه وعمامته الدينية السوداء ، اضافة الى الملصقات الداعية الى الحجاب والى ضرورة التمسك به ورقع نصوص (وَقَرْنَ في بيوتِكنّ ولاتبرّجْنَ تَبَرّجَ الجاهلية الأولى . .) ناسين عن عمد بانها قيلت في القرآن الكريم بحق نساء النبي في سورة الاحزاب، و ليس بموقف الإسلام من حق عموم النساء . .

و من جهة ثانية تزايد كتابة الشعارات على الحيطان، المطالبة بـ " السلم في كوردستان " وبـ " اطلاق سراح ابناء الموصل الأحرار" والمطالبة بـ " عدم تنفيذ احكام الأعدام بحق المناضلين الأبطال " ممن قاوموا انقلاب الشواف في الموصل . .

و تفجّرت تلك التعبئة المحمومة و ابتدأت بمعاداة حقوق النساء و التعبئة بـ (نجاستهن) بحادث حدث لأول مرة في الكاظمية حين القى ملثم بدشداشة سوداء، حجراً كبيرأً على زائرة اوروبية كانت تزور الكاظمية و ارادت رؤية ضريح الإمامين الكاظمين و قد التزمت بالتحجب بملابس طويلة و شال على رأسها و نظارات سوداء كبيرة غطّت وجهها، و لحسن الحظ لم يسقط الحجر عليها و انما سقط جنبها، فيما تفاجأت هي و صرخت صرخة مدويّة جمّدت اصحاب المحلات و الزائرين ليروا ماذا يحدث . . كانت الزائرة برفقة سيدتين كريمتين عراقيّتين متلفعتين حتى الوجه بعبائتيهما و معهم اطفال . .

و انتبه الجميع الى ظهور جماعة بملابس سوداء قطعوا الشارع الموصل الى الحضرة الكاظمية ، و ميّزوا ان اغلبهم كانوا من شباب سيئ السمعة و الأخلاق وكانوا يصيحون بـ :

(و لاتبرّجوا تبرّج الجاهلية الاولى) و كان احدهم متلفع ببيان السيد محسن الحكيم (الشيوعية كفر و الحاد) . . و صاح آخر (يمنع مرور الكفّار بأمر المرجعية !!)، فيما همس الناس بعضهم لبعض (هذولة جماعة محمد ابن الشيخ ـ او شيخ محمد ـ) . .

و فيما كانت تنتشر بين الناس اخبار، عن ان تلك العصابات الدينية تعود الى محمد ابن شيخ مرجعية الكاظمية، الذي حمل رتبة ملازم كهدية من استخبارات الزعيم على (مواقفه الوطنية) و بقي و استمر على صلة و تنسيق معها، الأمر الذي زاد من خوف الناس منه و من عصاباته . .

فإن ذلك الحادث فاجأ الحضور و عموم اهل الكاظمية، الذين كانوا يرحّبون باهتمام الاوربيين بثقافاتنا و تأريخنا، و ان تلك الزيارات كانت مفخرة لأهل الكاظمية ان اوربيين يأتون الى رؤية و تسجيل و نشر مقدّساتنا، و ينزلون في فنادق المدينة و يأكلون في مطاعمها، و يحضرون ما يقام من شعائر حسينية فيها . . 

في ظروف تزايدت فيها مجاميع الملثمين الذين كانوا يأتون ليلاً الى المقاهي مهددين اصحابها باغلاقها ان سمعوا اصوات موسيقى واغاني تنبعث من داخلها، وكان اصحاب المقاهي يتجنبون تلك الأعتداءات بدفع مبالغ مالية كبيرة لهم كخاوات لتفادي الأعتداء على المقاهي، التي تم الأعتداء على عدد منها بلا ايّ نقاش، بتكسير ابوابها ومحتوياتها بالهروات الثقيلة لأنها ملتقى شيوعيين، او بحرقها والأعتداء بالضرب على اصحابها، و وصل الحال ببعضهم الى حافة الموت . .  . 

وكان كل ذلك يجري بعلم، بل وحتى تحت انظار الشرطة التي لم تكن تحرّك ساكناً الاّ اذا أُحرجت بالأنفضاح، فكانت تقوم بشكل مسرحي بمحاولات اتصال يمكن انها كانت وهمية، وكان موقفها المشين ذلك يتكرر . . لدى رؤيتها مجاميع من الأشقياء و الساقطين الذين كانوا يلقبوّن بـ (جماعة الشيخ)، الذين تصدىّ قسم منهم لطالبات متوسطة قريش وثانوية الكاظمية للبنات و اعتدت عليهن بالضرب بحجة كونهن سافرات او ان حجابهن خليع، حُلّ قسم كبير منها بدفع خاوات عالية !!

حين كانت المدرستان تشغلان بناية واحدة جنب مغسل الموتى (المغيسل) !! الذي كان يغص بلا انقطاع بالمشيّعين وبالموامنة المرافقين، و بدعواتهم عسى الرب يرسل الميت الى الجنة !! وسط صراخ ونحيب كان يصمّ الأذان في اغلب الأحيان وفي اغلب الأيام .

وفي فجر يوم صيفي وفي احد ازقة المدينة القديمة في حي " القطّانة " . . استيقظ الأهالي عند  صلاة الفجر على صيحات :

ـ الله واكبر . . الله ينتقم من الظالمين !!

ـ الكفّار قتلــــــــــــــــــ . . وني !

و عند خروج عدد من ساكني المحلّة، وجدوا الشيخ " سيد لطيف " مضرّجاً بدمه ميّتاً . السيد الذي كان من رجال الدين المعروفين في الكاظمية بتأييده للإجراءات الديمقراطية وللأصلاح الزراعي ولقضايا الفقراء والكادحين، والذي كان من نشطاء منظمة انصار السلام . .

الإغتيال الذي ادىّ الى استنفار شباب الكاظمية و خاصة الشباب اليساري والديمقراطي، حيث بدأوا بتسليح انفسهم بالسكاكين وبوكسات الحديد، ومن تمكّن بالأسلحة النارية ايضاً لمواجهة مجاميع العصابات التي بدأت باستفزاز الطلبة من اعضاء (اتحاد الطلبة العام) الذي جمّد علنيته مكتب الزعيم، وبالأعتداء عليهم بالضرب المبرح الذي كان يصل حد الموت في حالات عديدة. بعد ان تطورت قضية فرض الحجاب و مكافحة التبرج، الى تشكيل فرق تهاجم السافرات وتهاجم بيوتهن و اطفالهم بتلك الحجة، فيما كانت تستهدف عوائلهم بالذات، انتقاماً من أب او زوج او اخ لم يسايرهم . .

 

                                                                        جماعة الشيخ، اتحاد الطلبة ـ الصدور

                                                                                                                                                                                    

ذهبت مع والدي الى مجلس الشيخ الدهوي الاسبوعي في داره، بعد ان دعا والدي و من يرى استصحابه معه، لجلسة ذكر للمرحوم (سيد لطيف) الشخصية الإجتماعية السياسية التقدمية الذي اغتيل قرب منزله في (القطانة) بعدة طعنات خناجر و تبيّن ان الفاعل كانوا مجموعة، امكن تشخيص احدهم الذي كان من (جماعة الشيخ) و كان قد هدد السيد اكثر من مرّة بالقتل ان لم يكف عن نشر افكاره المؤيدة للإصلاح الزراعي . .          

و قال الشيخ الدهوي في المجلس الذي ضمّ اكثر من عشرة رجال بينهم المحامي الطائي و حكوّمي (ابو نهرو) و مهدي الملاك :

ـ وصلتني كثير من الأخبار المقلقة فعلاً و خاصة ممن هم على صلة وثيقة بالحوزة . . كما تعرفون ان الدولة الإيرانية و المرجعيات الدينية العليا فيها، و بغض النظر عمّن يحكمها تشكّل ركناً اساسياً في بناء و تمويل مرجعية النجف العليا لأسباب تأريخية متعددة (اضافة الى التمويل المستمر لوقف "اوده" البريطاني ـ الهندي) . . و قد لعبت الدولة الشاهنشاهية دوراً كبيراً في ايصال السيد محسن الحكيم ليكون المرجع الأعلى فيها، من جهة.

من جهة اخرى فإن ثورة 14 تموز و اجراءاتها الثورية لصالح الفقير و المجتمع بقوانين الإصلاح الزراعي، و قانون الأحوال الشخصية الذي انصف المرأة ، ثم الى قانون رقم 80 بتأميم اكثر من 90% من عائدات النفط و حقوله . . اثارت الاحوال في ايران و انعشت اليسار و الحركة الشعبية الإيرانية التي ازدادت نشاطاتها و تأييد الجماهير لها . . حتى صارت تشكّل رعباً حقيقياً لحكم الشاه و دوائره، فعمل على دعم القوى التي تناوئ حكم عبد الكريم قاسم و اخذ ينسّق معها و طلب من السيد الحكيم ان يبذل جهده في تأسيس حزب اسلامي شيعي (على  غرار الاسلامي السنيّ) يناوئ الحزب الشيوعي العراقي الذي يزداد شعبية لضربه ضربة قاصمة، و يناوئ عبد الكريم قاسم لإسقاطه، و زوّد السيد الحكيم بأموال هائلة لتأسيس هكذا حزب و تغطية مصاريفه . .

فعمل السيد الحكيم مع المراجع التي يثق بها على تأسيس هذا الحزب، و على تمويل انواع العصابات و الجماعات لضرب الشيوعيين  و من يؤيدهم من المراجع الدينية و كان المرجع الديني (سيد لطيف) آخر ضحاياهم حتى الآن، و استفاد الحكيم من ان ابناء عدد من المراجع الموالين له، هم قياديون في حزب البعث ممن كانوا يعدوّن لإسقاط الزعيم، في الوقت الذي فيه آخرين يعودون للشيوعي و لعموم اليسار و الديمقراطية . .

و سأل حكوّمي (ابو نهرو) :

ـ شيخ الدهوي، كيف يقوم شباب او رجال مسلمين متدينين من عصابات، بقتل مجتهدين اسلاميين ؟؟ اليسوا هم مسلمين و يهابون كبار رجال الإسلام ؟؟ يعني كيف مسلمون يقتلون مسلمين بأوامر من مرجعية اسلامية عليا و غيرها، كما قتلوا سيد لطيف، و الاّ كيف ؟؟ اليس في ذلك معصية لله و للدين الاسلامي الداعي الى الأخوّة و نصرة الفقير و قوله تعالى (و جادلهم بالتي هي احسن) و حديثه الكريم (انما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ؟؟

ـ عزيزي ابو نهرو، كما فهمتُ من رجال مهمين في الحوزة . . ان المرجعيات مثل قيادات دينية اخرى كالفاتيكان لديها عصابات تنفّذ اوامرهم . . عندنا تقوم باستدراجهم و تجمّعهم كأطفال من عوائل فقيرة جداً و ممزقة و بخطوات مدروسة، يقوم بها (ساقطون) من اتباعها الذين يعتاشون على المرجعيات في اكلهم و مصاريفهم و سكنهم . . يبدأون بـ (كسر عينهم) كما يقال عندنا، اي كسرهم اخلاقياً ليكونوا تابعين اذلاّء لهم، و ليحطّموا شعورهم و احاسيسهم و يدرّبوهم ليكونوا قتلة بدم بارد (ينفذون اوامر فقط، بفتوى دينية خشية من عقاب الله) . . ليكسبوا حظوة او جائزة ما كهدية من الكبير، و وعد منه بأن يكون شفيعه يوم القيامة و يحصل على مكان في الجنة . .

ـ نرجع الى موضوعنا، هناك جبهة تتشكّل لإسقاط النظام يشترك فيها : البعثيون، ناصر و القوميون العرب، القوميون الأكراد، شركات النفط، ايران الشاه، المرجعية العليا لسيد محسن الحكيم، بقايا النظام الملكي السابق و بقايا الإقطاع . . لإسقاط حكم الزعيم عبد الكريم الذي لايزال لايصدّق بخطورتهم الفعلية عليه، بعد ان  سامحهم و حكمهم باحكام مخففة (عدا عدد من الضباط لإنطباق القانون العسكري عليهم) في محاولاتهم السابقة للإجهاز عليه و على حكمه بـ (عفا الله عمّا سلف) . . . فالوضع صار (ظلمة و دليلها الله) و الله يستر من القادم !!

                  و بعد نقاشات متنوعة و اثباتات متزايدة، شعر الجميع بخطورة الأوضاع فعلاً و ان عليهم ترتيب شئ ما لإيقافها او للوقوف ضدها، فيما فكّر بعض آخر بضرورة مغادرة البلاد خوفاً على عوائلهم و على ما يملكون، و الاّ سيتدمّرون.

                  و لابد من القول هنا، انه بعد سنين اشار مؤرخون و باحثون جادوّن الى ان فتوى (الشيوعية كفر و الحاد)، جاءت بدفع من دوائر شاه ايران و تمويلها ، في زمن ذهبت فيه مرجعية السيد محسن الحكيم العليا في النجف، ذهبت بعيداً في خروجها عن خط و نهج الحوزة العلمية الشيعية العليا التأريخي في النجف منذ مئات السنين . .  

                  اخبر الدهوي ضيوفه في بداية صيف ذلك العام بان الجلسة الأسبوعية ستتواصل لشعوره بالقلق لما ستؤول اليه الأحداث . . و على ان تكون كل اسبوعين، لأن عليه زيارة الشامية كلّما تطلب الأمر، ووفق ما يسمح به وقته لإنشغاله المتزايد بأمور اهله هناك بسبب التجاوزات التي تحصل عليهم و على الأراضي الزراعية العائدة لهم هناك، من قبل سراكيل الإقطاعي السابق في المنطقة، والتي صارت تأخذ مديات خطيرة على وصفه لها، و لما قد تتسبب بصدامات مسلحة بين اهله و ناشطي الإصلاح الزراعي من جهة و السراكيل من جهة اخرى، بسبب الأرض و مياه السقي و ما تحقق من تطبيق الأصلاح الزراعي، الذي يعتبره الإقطاع و من معهم، تحديّ لإرادة الله كما ورد في القرآن في سورة البقرة (و الله يرزق من يشاء بغير حساب)، كما يوجّه و يتعكّز عليه وكلاء المرجع الاعلى السيد الحكيم و يحرّضون به.

                  استمرت الجلسات على ذلك المعدّل وكان الجميع متشوقين لتلك اللقاءات التي كان الدهوي يدعو اليها و صارت تضم اضافة الى الحضور الإسبوعيين، وجوهاً وطنية معروفة من قادة الحزب الوطني الديمقراطي المشاركين في الحكومة و دوائرها، السيد (الحيدري) قائمقام الكاظمية، محامين مرموقين و اطباء معروفين . . لتبادل اخبار وشؤون البلد المتنوعة التي كان الجميع متشوقين لمعرفة المزيد عنها و عن تطوراتها الأخيرة . . . خاصة وان التوترات الأجتماعية والسياسية والدينية كانت في تصاعد مستمر لايهدأ . .

                  رغم ان الحالة في الكاظمية، كانت جزءاً من حالة الركود الظاهري و مسار الحياة اليومية، الاّ انها كانت مليئة بالحذر والترقب السائد في البلاد و الذي كان يهدد بحصول انقلاب عسكري . . وكانت لقاءات رجال السياسة والمتأثرين بها والديمقراطيين الذين التجأوا بعوائلهم الى الكاظمية حفاظاً على ارواحهم من محلات بغداد التي تنمّرت فيها القوى الرجعية والقومية المتطرفة اكثر من السابق، بعد ان زادت من نشاطاتها في التكسير و الحرق و التحطيم و مطاردة الديمقراطيين و عوائلهم، التي قامت بها عصابات و جماعات صارت اكثر تنظيماً و عدوانية من السابق . .

                  في وقت كانت فيه اللقاءات و المجالس في العاصمة بغداد تكبر وتزداد و صارت تضم ضباطاً متقاعدين و آخرين لم يُحالوا بعد على التقاعد لكونهم يساريين، كان قسم منهم منظمّين في الحزب الشيوعي و الديمقراطي اليساري و منظمات ديمقراطية و نقابات صارت اغلبها محظورة او مجمّدة بقرارات من مكتب الزعيم . . الاّ انهم كانوا يدورون في حلقات شبه مفرغة . . ان حصل انقلاب، هل سيدافعون عن الزعيم ام كيف ؟؟ . . في اوساط ضمّت عوائل متداخلة سنية شيعية كردية مسيحية صابئية و يزيدية متآلفة، سواءً في المذاهب او الاديان و القوميات . . لشعورهم بوحدة المصير و وحدة الحقوق، بعد ان ضعف التماسك القومي و الديني و المذهبي، بفعل المصالح الأنانية و الصراعات السياسية التي كانت تزداد حدة آنذاك ولاتفرّق بين انتماء ديني او قومي . .

                  في الكاظمية كانت مأثرة و بطولة الإمام الحسين و احياء و حضور مجالس التعزية و المواكب الحسينية و التشابيه و شعائر محرم و عاشوراء و الملابس السوداء و جاذبية الالوان على البشرة و المشاركة الكبيرة للشابات و الشباب فيها و التزام الجميع بالأدب (عدا جماعة الشيخ)، الأدب الذي فرضته قدسية تضحية الإمام الحسين و رهطه في سبيل الشعب و الفقراء، اضافة الى طعام المناسبة الخاص في احياء ذكرى الرجولة و سند و إباء النساء و وقفات البطولة، التي كانت تُنشد في الفعاليات . . و كانت تحفّز و تديم و ترفع روح تحديّ الظلم و الظالمين و تدعو الى الانتفاض و الثورة و روح الاستعداد لما قد يحصل في البلاد !!

                  و كانت المواكب الحسينية و خاصة موكب الصفّارين تثير مشاعر متنوعة من الحب و الألم على الفقدان، و تعزز الأمل في تحقيق ماعجز عنه السابقون الذين ان عجزوا، الاّ انهم رسموا ملامح تغوص عميقاً في النفوس، ملامح البطولات و التضحيات في سبيل الحق و العدالة . . كل ذلك و غيره كان يحفّز و يثير في نفوس اهالي الكاظمية سلوكاً و خُلُقاً ثورياً . .

و في احد الايام في المتوسطة و بعد انتهاء الفرصة الأخيرة بين درسين و كنا في حالة الذهاب الى الصفوف حدث ارتباك بين الطلبة و صار احدهم ينظر للآخر و البعض يسرع و الآخر يقف و الكل عيونهم مفتوحة بكاملها، و من الهمسات عرفت ان مجموعة من رجال الأمن كانوا يلاحقون و يحاولون محاصرة احد الطلبة الذي كان يسرع نحو الحمامات، كان الطالب في الصف الثالث (عباس) ان لم تخني الذاكرة، و كان معروفاً بين الطلبة كطالب يساري نشيط في توزيع المناشير السرية، و اشتهر بين الطلبة بكتابة شعارات الحائط . .

                  و دون سابق معرفة شخصية بيننا، اقتربت منه و تبادلنا الإبتسام و اخبرته بأنه يستطيع القفز من سياج المتوسطة الى بيت (الشيخ الدهوي) و ان يختفي بين اشجار النارنج و شجيرات ورد الجوري هناك، و اني سآتي الى هناك بعد انتهاء الدوام و اخبر الشيخ بما حصل، و عليه ان يطمئن . . في وقت كان فيه سياج المتوسطة مرتفع و في اماكن اخرى منطبق على ابنية الجيران الاكثر ارتفاعا، او مرتفعاً  ان تمكن الفرد عبوره، فإنه سينفذ الى عائلة اخرى لا يُعرف كيف ستتصرّف بوجود غريب عندها دون استئذان . .

و بسرعة ابتسم عباس ابتسامة سريعة و اجابني :

ـ صار عزيزي و الف شكر !

تم ذلك في ثواني و كنت ذاهباً الى الصف و بقيت اقلّب فكري و احدّث نفسي . . (كأنه يعرفني و الاّ كيف وثق بي ؟؟ . . كيف ؟ ) و مضى الأمر بهدوء من جانب، و من جانب آخر كان النقاش بين المدير (عريف عودة) و رجال الأمن صاخباً مسموعاً :

ـ شنو داتقشمر علينا ؟؟ ولك تبقى قَشْمَرْ . .

ـ ليش خابرتنه على عباس و هذا المجرم لم يداوم اصلاً هذا اليوم، كما اخبرنا الفراش (كان الفراش يسارياً و يحمي الطلبة اليساريين) ؟؟

ـ عزيزي بس على كيفكم لاتصيّحون احنا في مدرسة مو بالمكتب رجاءً . . آني شفته بعيني.

ـ يابه دروح هاي عينك بدأت تسورب . . مو سويّناك مدير و هلله هلله ؟؟

                  و بعد انتهاء الدرس الاخير استطعت تخليص عباس بذهابي الى بيت الشيخ الدهوي و مقابلتي ايّاه و اخباره بما حصل، و ثمّن الشيخ موقفي و ربّت على كتفي و قال :

ـ اتفضل ابني بيتي بيتكم، تحبوّن استريحوا بالحديقة الى ان نشوف ان الشارع خالي . .  

و بعد خروجنا الى الشارع و حديثنا، اخبرني عباس بأنه صديق مفيد و محمود و بانه رآني عدة مرات معهما و عرف اني اخوهما . . و بعد ايام اخبرني محمود بأن هناك صديق عزيز عليه يريد يشوفني و ان هذا الصديق هو (شندي) و انه من قادة الحركة الطلابية السرية ؟!، و ان عليّ ان احفظ اسرار الحديث معه و لا اتحدث بها لأقرب الناس . .

                  كان (شندي) شاباً نحيفاً طويل القامة يعتمر بيرية رمادية انيقة، يتحدّث بهدوء و بكلمات بسيطة بلكنة اهل الكاظمية عرفت بعد سنوات انه كان طالباً جامعياً، و اشار الى اعتزازه و اعتزاز (الرّبُعْ) بما قمت به في مساعدة عباس للافلات من الإعتقال، و دخلنا في نقاشات متعددة عن محلات و حواري الكاظمية و اسمائها، و فرح بهوايتي بركوب الدراجة الهوائية و معرفتي بتفاصيل مناطق الكاظمية . .

و في النقاش قال شندي :

ـ احنا و منذ فترة نلاحظ نشاطاً متزايداً لجماعات (اسلاموية) من موامنة و من مهن متنوعة و ليسوا طلبة ، بغطاء الدعوة الى الصوم والصلاة، يقومون بزيارات للمدارس الثانوية والمتوسطة بحجج متنوعة و قسم منهم مزوّدون بهويات فيها اسمائهم، باتفاق مع مدراء المدارس او مع خفراء الباب سواءً بالتهديد او بدفع اموال . . و يعملون على التحريض ضد القوى الوطنية و يكتبون شعارات على الحيطان الداخلية للمدارس يعتبرون فيها السياسة (كفر و الحاد) اثر فتوى السيد الحكيم . .

بل واكثر من ذلك فانهم يشكّلون مجاميع مسلحة يؤمّنْ لها السلاح من ملازم محمد ابن الشيخ الخالصي  الذي تنشط جماعاته باسم (جماعة الشيخ) او (جماعة شيخ محمد) . . و علينا ان ندافع عن انفسنا بالعمل السري و بما يتوفر من سلاح للدفاع عن النفس . . و اتحاد الطلبة يحتاج لأصدقاء يساعدوه بالأخبار التي تحمي اعضائه من المخاطر، اصدقاء ليس بالضرورة ان يكونوا اعضاء لجان و يحضرون اجتماعات و لكن مخلصين و يساعدون الوطنيين . .

. . . .

. . . .

                                                      سفرة اتحاد الطلبة العام الى (الصدور)

 

من جانب آخر سعت الإتحادات و الجمعيات و النقابات المجمّدة اجازاتها، الى القيام بنشاطات اجتماعية توفّر مجالات لتلاقي و لنقاش و تبادل اخبار و تصورات لأعضائها و عضواتها، كالسفرات و اقامة حفلات بمناسبة الأعياد و الأعراس و الموالد المتنوعة، و قد نشط اتحاد الطلبة العام في مجال السفرات . .

كانت سفرة يوم السباع الخالد في 14 نيسان التي تأجلت لأسباب فنية الى بداية صيف عام 1962 ، كانت سفرة لاتنسى، بحشد طلابي كبير بل وكبير جداً على سفرة طلابية، حيث جرت السفرة بمشاركة آلاف من الطلبة والطالبات ملئوا اكثر من مئة باص كبير، يوم تم اختيارنا كأشبال لـ (اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية) ضمن فرع الإتحاد في اعدادية الكاظمية للبنين .

كانت السفرة الى سد ديالى الغاطس في بساتين (الصدور) على اطراف (خانقين) .  .  وكانت قد جرت رغم امتناع السلطة على اجازتها تحريريا ـ كما جرت العادة آنذاك ـ وانما وافقت موافقة تليفونية شفهية بالأتصال بمقر الأتحاد الكائن في الوزيرية مقابل كلية التربية آنذاك . في زمان حشدت فيه الشرطة ورجال الأمن امكاناتهم لمواجهة الفعاليات الجماهيرية المطالبة بـ : الديمقراطية وباطلاق سراح الموقوفين السياسيين ورفع الأحكام العرفية بحقهم، والفعاليات المطالبة بـ (الديمقراطية للعراق والسلم في كردستان)، وبدأت تضيّق على الطلبة  .  .

واضافة الى لافتة (الطلبة سند امين للجمهورية) التي زيّنت مقدمة الباص الأول، كانت لافتات  (السلم في كردستان)، (على صخرة الأتحاد العربي الكردي تتحطم مؤامرات الأستعمار و الرجعية)، (من اجل حياة طلابية حرة، من اجل مستقبل افضل)، و من قصيدة الجواهري الخالد (يوم الشهيد) :

" يوم الشهيد طريقُ كل مناضل        وعرٌ، ولانُصْبٌ ولااعلامُ " . . تزيّن جوانب الباصات المتتالية .

و وسط  جوّ مرح وحميمية رغم الحذر والأنتباه مما يمكن ان يعرقل سير الباصات، كانت حتى الملابس تحكي وتعني الكثير، فاضافة الى الملابس العادية، وارتداء البعض الملابس العربية بالعقال والعباءات الرجولية الأنيقة، كانت الملابس الكردية الفضفاضة التي زادت من وسامة و زهو مظهر الشباب، و زادت من جمال الشابات الكرديات، كانت الملابس القومية الكلدانية و الآشورية شيئا جميلاً من شكل آخر وشيئاً جديداً على كثير منا آنذاك من العرب، وسط تفهم واحترام مَن تحدين الأوضاع القائمة آنذاك، وحضرن بحجابهن ولم ينزعنه . هناك انتبهت للمرة الأولى ان العراقيين وليس غيرهم يتحدثون بعدة لغات هي كلّها لغاتهم ! بعد ان كنا كطلبة فتيان نتصور ان هناك عربي وكوردي فقط . .  و(عجمي) يتكلم به غير العراقيين ؟ !

وقد غنىّ في السفرة الوجه الجامعي المعروف (عبد الرحمن شمسي) الشهير بـ (بلبل الجامعة) آنذاك .  . غنىّ " عمي يابياع الورد، كليّ الورد بيش كليّ ؟ "، "فوك النخل فوك .  . "،  " هه ر بجي كورد وعرب رمز النضال .  .  هاي خوّتنا وتاريخ انكتب، النا حافل بالمجد والتضحيات .  .  صلبه وحدتنا ومعدنها صلب، ما تهزهزها العواصف للأبد ! ! " و التي كان كل مقطع منها، يقاطع بعواصف من التصفيق والهلاهل التلقائية الوجدانية حماساً لمعانيها .

                  ثم القيت قصيدة " الريل وحمد " التي القاها الشاعر المعروف (مظفر النواب) نفسه، والتي كانت تقاطع بالترديد بحرارة وبالتصفيق معه، اضافة الى قصيدته الشهيرة الأخرى التي غناها بلبل الجامعة، " سعد يا سعود يابيرغ الشرجية" التي اهاجت المشاعر ورفعت الأحاسيس وكانت تقاطع بهوسات منسجمة الأيقاع " هذي يشامغ الثوار تبرج نار حربية" . 

والقيت اغاني وقصائد عن انتصار الثورة الجزائرية، وصياغة مناشدات للأسراع باطلاق سراح المناضلة الجزائرية البطلة (جميلة بوحيرد) هي والمناضلة (جميلة بو باشا) رغم انتصار الثورة واستقلال الجزائر . . ـ و قد أُطلق سراح البطلة جميلة بوحيرد اثر مناشدات اممية متنوعة بعد فترة قصيرة و دعاها الزعيم لزيارة العراق، فزارت بغداد التي غنّت طرباً في استقبالها، و زارت مرقد الامامين الكاظميين وسط استقبال رسمي و شعبي قلّ نظيره في الكاظمية ـ .  .

و في السفرة اقيم معرض كبير في الهواء الطلق للصور التي رسمها طلاب وطالبات معهد الفنون الجميلة في بغداد، لاازال اذكر منها الرسوم الجميلة للرسام الكاظمي الشهير " اتحاد كريم"، التي كانت بقلم الرصاص العادي والذي كان مستعدا لرسم بورتريه لمن كان يلحّ عليه لرسمه، بخطوط سهلة ممتنعة امتاز بها قلمه الرشيق . 

وتحت الشمس التي لم نكن نحسّ بحرارتها العالية و وسط نسائم نهر ديالى (سيروان) والروافد والبساتين المحيطه هناك، في بدء ذلك الصيف، تجمع الشباب والشابات الكرد يدبكون الدبكة الكردية وكنا نحن الشبيبة نحنجل معهم بعد ان دعونا بود للمشاركة معهم، و صرنا مشغولين بجدية كبيرة بالتدقيق بحركة اقدامهم، كي نضبط ايقاع الدبكة الذي كان يجري سريعاً وبحماس، وسط فرح وضحك وتشجيع البعض للبعض، على انغام ساحرة وصوت يخلب النفس، عرفت بعدئذ انها كانت اغاني والحان المغني الكوردي الشهير (حسن زيرك)، كانت تُبثّ من مكبر جهاز تسجيل كبير (لم يكن يوجد أخف منه بعد، آنذاك)، كان متصلاً ببطارية احدى الباصات .

في طريق العودة الى بغداد، جرت اكثر من محاولة من مجاميع كانت تحمل عصي، لايقاف السيارات بشتائمها وبقذفها الباصات بالحجارة، الاّ ان تلك المجاميع كانت ترتد بعد اكتمال رؤية مشهد طول القافلة وصدوح اناشيد " من السجون تهفو قلوب  بحنين وباشتياق .  . ياليت انّا و النصر دانٍ في الطريق مع الجموع " ، التي كانت تهيج التصفيق وعلامات التضامن من سكنة القرى والمدن الفقيرة الصغيرة المترامية على الطريق . .

                  وكانت تهيج النفوس وتجدد العزم على التضامن مع سجناء الحرية، وسجناء الفعاليات الهائلة المتنوعة التي كانت تجري بجهود الحزب الشيوعي والوطني الديمقراطي من اجل السلم في كردستان ، يوم كانت الحرب العدوانية ضد الشعب الكردي، الشغل الشاغل للعراقيين رجالاً ونساءً في الوسط والجنوب خاصة، ونظّموا من اجلها مظاهرات ووجهت بقسوة، حين عمّت مدن العراق من اقصاه الى اقصاه، وملئت شوارع بغداد العاصمة بشتى الأشكال .

واضافة الى اجواء الفرح والتفاؤل وتجديد العزائم وتربية النفوس، لعب " اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية " دوراً لاينسى، طيلة العقود التي كان فيها الشارع العراقي يموج ويغلي بالنشاط  من اجل الديمقراطية والحقوق ومن اجل صيانة ما تحقق من مكاسب للبلاد، فالطلبة شكّلوا و يشكّلون الشريحة التي اضافة الى انها تمتلك الطاقات والحيوية والثقافة، فأنها تريد ـ ومن حقها ـ ان تعيش، وان يعيش البلد حياة سعيدة افضل، كبقية بلدان العالم  .

 لقد رسخت فعاليات الأتحاد في عقولنا وافئدتنا الفتية منذ ذاك، الروح الوطنية، روح التآخي القومي والعرقي، روح حب الناس واحترام المرأة ودعم الضعيف وعدم السكوت على الظلم، وفيه ومنه تعلّمنا ان مواجهة الظلم لاتتم بالتهريج ولابالتمني فقط، بل فتّح عيوننا انذاك على ان هناك قوى حاكمة واخرى تدفع للتهريج، لأمتصاص النقَمْ ضدّ تلك القوى، و بالتالي توجيهها للصدام بالمنظمات الجادة في العمل من اجل الحرية و الديمقراطية، من اجل حرف و تشويه واجهاض المطالب . . لقد نبّه الأتحاد، الشباب وحذّرهم من المآسي التي قد تنجم بسبب الأستهانة والأستخفاف بالطغيان واهمال بناء الوسائل الفاعلة لمواجهته .  .

                  هناك في سفرة " الصدور "، التقيت بالمناضل الطلابي المعروف رغم تكتّمه (الشندي)  الذي حيّاني مبتسما مصافحاً وكأني ندّه، لتجمعنا الشهور معاً بعد اقل من عام بالشهيد البطل (سعيد متروك)  حين كان يقود المقاومة المسلحة ضد الأنقلاب الفاشي عام 1963 في " الكاظمية " و كنّا من ربعه . . كما سيأتي . . (يتبع)

 

عرض مقالات: