بعد قضائه ما يقارب السنتين في بيروت وكان يعمل معظم الفترة في مطبعة المستقبل معاوناً لمديرها، أُبلغَ بشكلٍ مفاجئٍ قبل بضعة أيام تحديداً في مطلع شهر أكتوبر عام 1980 بفك ارتباطه من العمل وتصفية أموره والتزاماته الأخرى والتهيئة للسفر للالتحاق بالفصائل المسلحة للحزب الشيوعي العراقي في كوردستان العراق، وحدد له لاحقاً موعد السفر إلى دمشق، وسيرتب الرفاق هناك تنظيم سفره إلى القامشلي، وفي القامشلي سيتولى المسؤولون عن النقل لإكمال رحلته نحو الهدف المنشود. صباح يوم الموعد لم يختلف عن بقية صباحات الفاكهاني الهادئة وحركة الناس جيئةً وذهاباً نحو أعمالهم، إلا أنه كان صباحاً خاصاً سيشكل بالنسبةِ له نقلة نوعية منذ خروجه من العراق عام 1978. جمع ليلة أمس متاعه في حقيبة الظهر. استيقظ اليوم من نومه في وقتٍ مبكرٍ وهو في كامل نشاطه الصباحي الذي أعتاد عليه أيام عمله في المطبعة، بالرغم من سهرة ليلة أمس التي أقامها له وبصحبة الأخرين رفيقه وصديقه (أبو إيفان) الذي يقاسمه الشقة. ودع رفيقه وأهدل الحقيبة على كتفه وحث الخطى إلى المكان الذي يفترض أن يكون فيه وقوف السيارة التي ستنقله إلى دمشق. عند وصوله بناية الرحمة التي فيها مكتب الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين حيث مكان الموعد؛ كانت في انتظاره سيارة صغيرة تابعة للجبهة، وقد جلس فيها السائق وإلى جانبه في المقعد الأمامي مساعده أو مرافقه. وكان الثلاثة يعرفون بعضهم البعض بحكم العمل المشترك بينهم وتردُّد السائق ومساعده على المطبعة لنقل المطبوعات وأشياء أخرى. ركب وأخذ موقعه في المقعد الخلفي. تبادلوا الجمل الصباحية الجميلة مع البعض للملاطفة وأطلقوا بعض النكات الظريفة التي ترخي قسمات الوجه وتفكك براطيمها الصباحة الخاملة...الخ، بالطبع لا يعرفان أي شيء عن وجهته (ومن المعتاد لا يُسمحْ لهم بالسؤال في أغلب الحالات) سوى أنه متوجه إلى دمشق. عندما تحركت السيارة ألتفت السائق نحوه وأبلغه بوجود مسافر أخر معهم في الرحلة وهو أيضاً من الرفاق العراقيين وساكن في نفس منطقة الفاكهاني، بقرب مقهى (أبو علي). أومأ برأسه دلالة على أنه فهم البلاغ، وخمن أنهم متوجهون نحو مكتب الحزب الشيوعي العراقي الذي يقع في نفس شارع المقهى. بعد مسافة قصيرة، دلفت السيارة نحو يمين الشارع ودخلت فرع المقهى، ثم وقفت أمام البناية التي فيها مكتب الحزب. استأذن السائق منهما للذهاب لجلب المسافر الأخر وترجل من السيارة وسار نحو مدخل البناية التي كانت محروسة من قبل الجهاز الأمني للحزب الشيوعي اللبناني والرفاق العراقيين أيضاً. وبعد دقائق معدودة عاد السائق وبصحبته الرفيق المسافر، وقد فوجئ به ولم يتوقع رؤيته، ولم يخطر بباله أن يكون هو المسافر الأخر معهم في هذه الرحلة، لأنه سبق وكان برفقته خلال الأيام الماضية وطيلة فترة بقائه في بيروت التي دامت حوالي الأسبوعين، وقد كان بصحبته في معظم زياراته إلى المنظمات الفلسطينية، زيارته للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ولقائه بأحد قادة الجبهة في بيروت وجرى الحديث فيها عن علاقة الحزب بالجبهة المذكورة، وكذلك عن لقائه مع مسؤول منظمة التحرير الفلسطينية (فتح) في بيروت، وأيضاً في زيارة له للجبهة الديمقراطية وكلفُ معه ببعض المهام المتعلقة بالسلاح مع تلك الأطراف، وكان معه في زيارته الأخيرة قبل بضعة أيام إلى الجبهة الديمقراطية لمشاغل أخرى. نعم. فوجئ لأنه طيلة تلك الأيام الماضية التي كان بصحبته لم يسمع منه ولا كلمة واحدة عن سفره، صحيح انه يتصف بالكتمان، هذا الذي تعود عليه طيلة السنوات التي عرفه فيها وطيلة تواصلهما مع البعض، لكن ليس إلى هذه الدرجة من الكتمان التي تقطع الأنفاس! على كل حال أنه الرفيق سليمان يوسف (أبو عامل) عضو المكتب السياسي للحزب. يعرف عنه تولده عام 1925، وعمل معلماً عام1946، وحصل على شهادة المحاماة عام 1952، ودعي فيما بعد لخدمة الاحتياط في الجيش العراقي برتبة ملازم وبقي إلى ان وصل إلى رتبة مقدم، أعتقل اثناء انقلاب شباط 1963 وكان ضمن العسكريين في قطار الموت السيئ الصيت، أنتخب عام 1970 عضواً في المكتب السياسي للحزب. له مع الرفيق (أبو عامل) السفر الطويل في حياته الحزبية، فقد كان مسؤوله الحزبي في موسكو في عامي 1970 و1971أثناء دراستهما في اكاديمية العلوم الاجتماعية (المدرسة الحزبية) ومن ثم مسؤوله في الشركة الإعلامية للحزب 1976 ـ 1978 إدارياً وحزبياً، وكذلك كلفَ معه في الأيام القريبة الماضية لبعض المهمات الفنية في بيروت أثناء زيارته لها. ابتهج كثيراً وأستأنس أن يكون هو رفيقه في هذه الرحلة، فله محطات مشتركة كثيرة معه ولغة مشتركة للحديث عن مواضيع مختلفة ويضاف إلى كل ذلك كان يجد فيه إنساناً يمتاز بصفائه ونقاوته وصدقه. كان الطريق العسكري هو الطريق المتفق عليه مع الحكومة السورية للتنقل بين بيروت ودمشق حينذاك للذين يحملون هويات المنظمات الفلسطينية التي ليس لها مشاكل مع الحكومة السورية، كان كافياً ابراز الهوية العسكرية للمنظمة التابع لها المسافر في الحاجز الحدودي وتسجيل اسمه وتأريخ دخوله وهو طريق طويل ومتعرج قياساً مع الطريق الدولي بين البلدين. وطيلة مسافة الطريق تجاذبا أطراف الحديث حول مواضيع مختلة، بدءاً من كيفية خروجه من العراق والفترة التي قضاها في بيروت وعمله في المطبعة ...الخ ثم عرجا في حديثهما عن الأوضاع السياسة في العراق بشكلٍ خاص ومنطقة الشرق الأوسط بشكلٍ عام، التصورات والتوقعات المستقبلية للوضع القائم، ومستقبل النظام الدكتاتوري والحرب العراقية ـ الإيرانية ...الخ، كان يتفق معه في بعضه ويتغاضى عن بعضه الآخر. سأله الرفيق أبو عامل عن فترة بقائه في دمشق، فأخبره أنه لا يعرف. الأمر عند الرفاق في دمشق لأنه سيغادر من هناك إلى القامشلي ومحطته الاخيرة ستكون كوردستان، لكنه لا يعرف التواريخ والأوقات لأنها متروكة لظروف الرفاق في دمشق. فاجأه أبو عامل بسؤال فيما إذا كان الرفاق في بيروت قد أبلغوه بشيء عن وجهته، فنفى معرفته، إذ لم يبلغه أحدُ بشيء خاص سوى ابلاغه من قبل مسؤول منظمة لبنان التوجه إلى كوردستان، سأل هو بدوره (أبو عامل) فيما إذا كان هناك شيء بخصوصه ولا يعرفه، عندها لزم أبو عامل الصمت مع (صفنة) وهز برأسه مع تنهيدة واكتسى وجهه ببعض الملامح التي تجافي الارتياح ولم يجب، وهو من الذين لا يميلون إلى الإسراف في الحديث، ولم يعد عليه السؤال. غيرا دفة الحديث بوجهةٍ أخرى. وصلا دمشق، نزل قبل (أبو عامل) في ساحة المرجة وقبل ترجله من السيارة سأله (أبو عامل) فيما إذا كانت لديه مشكلة مع السكن في دمشق أجابه بأنه يدبر وضعه، توادعا وافترقا كل في سبيله. في دمشق التقى بالرفاق ولم يطل بقاؤه فيها سوى ايامٍ معدودة، اشترى بعض الحاجيات وبالصدفة وقع نظره على كتاب قديم وضخم ( حوالي 400 صفحة)عنوانه الجاسوسية في الحرب العالمية الثانية ومؤلفه امريكي أسمه (شيسلنجر) في مكتبة ربما منسية في دمشق واشتراه بسعر بخس إلا انه كان ممتعاً له، بعد بضعة أيام أخبره الرفيق المسؤول عن النقل هناك للتهيؤ للسفر إلى القامشلي، وقد ُنيطت به مسؤولية مجموعة من الرفاق، بينهم  الشهيدة وصال محمد شلال ـ سوسن ـ ، الشهيد مازن كمال الدين، طالب كاظم ـ أبو هشام ـ، علي الصراف، ورفيق اخر أو رفيقان وقد اقتلع النسيان أسماءهما من ذاكرته . حينها كانت وسائط النقل المباشرة بين دمشق والقامشلي نادرة جداً إلا شاحنات نقل البضائع، فكان على المسافر التنقل بالحافلات الكبيرة من دمشق إلى حلب ومن هناك بواسطة القطار إلى القامشلي، هكذا بدأت رحلتهم على مرحلتين، من دمشق إلى مدينة حلب بواسطة الحافلات الكبيرة لنقل الركاب والتي انطلقت مساءاً ووصلت الساعات الأولى من الفجر، في محطة قطار حلب وبعد ابتياعهم لتذاكر السفر والانتظار لبضع ساعات، استقلوا القطار المتجه إلى مدينة القامشلي. الرحلة كانت متعبة وطويلة وخاصة عند اقترابهم من مناطق البادية والجزيرة، التي كانت مناظرها موحشة وقاحلة نادراً ما يلمح المرء شجرةً أو خضرة. ويظهر أن الامطار قد جافت المنطقة لفترات طويلة، فالهواء الساخن المثقل بالتراب الناعم يتلحف المنطقة ويتسرب إلى عربات الركاب عبر النوافذ المعطوبة، وقسم منها لا تغلق أساساً بسبب الصدأ الذي يعيق حركتها أو من خلال مساماتها الوسيعة وغير المحكمة، ناهيك عن صخب عجلات عرباتها وميلانها يميناً وشِمالاً، إلا أن متعتهم كانت مع العوائل والمسافرين السوريين الذين كان أغلبهم من سكان القامشلي الذين تتسم سجيتهم بالطيبة والبساطة والكرم. وأغدق قسم من هؤلاء المسافرين عليهم من الزاد الذي حملوه معهم لمسافة الطريق تعبيراً عن اللطف والاحترام بعدما عرفوا انهم عراقيون وهم غرباء في المنطقة. بعد تجشمهم لهذا العناء حطت بهم الرحال بعد الظهر في نفس اليوم في مدينة القامشلي. 

في دمشق زودَ بثلاثة عناوين لاستخدامها عند وصولهم القامشلي، العنوان الأول: ينتظرهم رفيق من الحزب الشيوعي السوري في محطة القطار، الثاني عيادة الدكتور الفقيد محمد شيخو الكادر القيادي في الحزب الشيوعي السوري، الثالث احتياط يستعين به عند الضرورة القصوى وهو كادر في الحزب الديمقراطي الكردي السوري (...)،(ملاحظة كل هؤلاء تعرف عليهم فيما بعد واصبحوا من أصدقائه المقربين)،وتكون الإشارة لكي يتعرف عليهم الرفيق السوري الذي بانتظارهم في المحطة  هي حمل كيس أحمر اللون في اليد اليسرى وحقيبة شخصية في اليد اليمنى و كلمة السر(لا يتذكرها ).هكذا كانت التعاليم. وما إن وصل القطار محطة القامشلي وتوقف حتى ترجل الرفاق من العربات ووقف هو حاملاً الإشارة المتفق عليها. ولقد شاهد على بُعد أمتار رجلاً واقفاً على رصيف المحطة وهو يَهمُ بالتوجه نحوهم، رجلاً في منتصف عقده الخامس برونزي البشرة، ونحاسي الشعر. تُزينه خصلات بيضاء. حليق اللحية والشوارب. يظهر من محياه انه كان في يوم من الأيام في احدى الدول الأوربية، رشيق القوام بشوش الملامح. يلبس بدلة السفاري عفني اللون. وما أن أقترب منه حتى سلم عليه وهمس له بكلمة السر وبعد أن تأكد كلّ من الآخر صافحه الرفيق السوري وأتحفه بابتسامة ملأى بالمودة وعرف نفسه باسم أبو وحيد، ومن ثم صافح بقية الرفاق، وسأله إنْ كانت المجموعة كاملة. وبعد أن تيقن من ذلك، أشار إلى اتجاه الخروج نحو موقف السيارات وبأن هناك سيارتين بانتظارهم. وصلت المجموعة إلى موقف السيارات ورحب بهم السائقان وتوزعوا بين السيارتين، أما أبو وحيد فقد امتطى دراجته النارية وسار أمامهم من شارع إلى أخر، وأما الرفيق مسؤول المجموعة فقد أخذ لنفسه مكاناً بجانب السائق في واحدة من السيارتين. في الحياة يلتقي الإنسان بكثير من الناس ومع مرور الزمن وتقادم الأحداث تمحى من الذاكرةِ وجوه وأسماء كثيرة، إلا أن هناك ما ينفرد البعض منها ويبقى حافراً نفسه في ذاكرة المرء عصياً على النسيان. أخذ يلتفت الرفيق المسؤول بين برهة وأخرى إلى الصفحة الجانبية للسائق، أنه وجه ليس بغريب عنه، بدأ يشحذ ذاكرته للبحث عن هذا الوجه، ويتفرس فيه مرة تلو الأخرى، لكن دون جدوى، أستمر في التفاته إلى أن أثار انتباه السائق واستغرابه. 

همس إليه السائق بسؤال: 

ـ (رفيق في مشكلة؟) أي هل هناك مشكلة؟ 

ـ أجابه: لا، لكن وجهك ليس بغريب عني أيها الرفيق العزيز، ولا تسعفني ذاكرتي أين رأيتك!

ـ سأله السائق: هل زرتَ القامشلي في يومٍ من الأيام؟

ـ أجابه:( بلي) أي نعم، قبل عشر سنوات في عام 1970 كنا مجموعة وصلنا القامشلي من العراق وعبرنا الحدود بشكلٍ غير شرعي، وفي القامشلي رتب الرفاق السوريون سفرنا إلى حلب مع واحد من الرفاق السواق، كانت لدينا وثائق سفر مزورة ولم نكن نريد التعرض لمشاكل عند نقاط التفتيش في الطريق. وما ان وصلنا إلى واحدة من تلك النقاط، حتى طلب منا الرفيق السائق البقاء في السيارة وعدم النزول منها، أما هو فقد ترجل وأسرع لملاقاة العسكري الذي كان قد عَزمَ التوجه نحو سيارتنا فحادثه وأخبره بأننا وفد المؤتمر الإسلامي، وكان آنذاك يُعقد مؤتمر اسلامي في دمشق، واقتنع العسكري بادعائه ونجونا من ابراز وثائقنا (هذا الذي أخبرنا به الرفيق السائق، أعجبنا ذكاؤه وتصرفه وسرعة مبادرته!) كان كثير الشبه بك، يقال أنه يخلق من الشبه اربعين.

ـ قال الرفيق السائق بعد ان التفت اليه مندهشاً وقد لاحت على ملامحه السرور والابتهاج: أنا انقل (رفئاتنا ـ رفاقنا) العراقيين منذ شبابي، يعني كنتَ انت معهم!  

أجاب: بنعم.

قال الرفيق السائق وقد أستهل كلامه فرحاً: ذلك السائق هو انا بلحمه ودمه، ليس لدينا اشباه مثل الرؤساء، كنا نعمل على خط (قامشلي ـ حلب) وكل عناصر نقاط التفتيش يعرفوننا ويثقون بكلامنا وكان هذا أول مفاجئة، الرفيق السائق جورج (أبو عزيز) حاله حال أغلب الناس في هذه المدينة، ينضحون بالطيبة والشهامة.

واصلت السيارتان السير من المحطة وفي مقدمتهما أبو وحيد بدراجته النارية إلى أن وصلتا شارع الكورنيش، وترجلت المجموعة من السيارتين ودخلوا إلى بيت مبني من الطين إلى جانبه بعض الأسس لبناء غرف حديثة بالسمنت والبلوكات، قادهم أبو وحيد إلى داخل البيت وكان من المفترض أن يمكثوا فيه لحين سفرهم، عرفوا أن هذا البيت هو بيته، وانهم وسط عائلته، قامت العائلة كورشة العمل بتهيئة الحمام لهم وتوفير الراحة لإزالة عناء السفر عن كاهلهم، و قاموا بأعداد وجبة عشاء لذيذة عبارة عن طبق معدني كبير فيه برغل مطبوخ على طريقتهم الخاصة ومغطى بدجاجتين مع مستلزماتهما، والتف الرفاق حوله كالذئاب الجائعة، وتم اثناء تناول الطعام تبادل بعض العبارات للمجاملة وكيل المديح للضيافة الكريمة والطعام اللذيذ، وعرج الرفيق أبو وحيد على تأريخه وتشدق كثيراً بعمله مع الرفاق العراقيين لسنوات طويلة وفي فترات مختلفة ولقاءاته ببعض الرفاق من قيادة الحزب اثناء مرورهم بهذه المدينة التي أصبحت جزءاً من تأريخ الحزب الشيوعي العراقي، وهو في أوج غبطته في سرد تأريخه مع الرفاق العراقيين...الخ، قاطعه الرفيق مسؤول المجموعة ليدلو هو الأخر بدلوهِ في الحديث معبِّراً له عن شكرهم  للضيافة الكريمة، وعن إشادة وتثمين حزبهم لدور الحزب الشيوعي السوري الشقيق في اسناده له كذلك...، ومن باب الطرافة لتلطيف أجواء الجلسة، قفزت إلى ذاكرة المسؤول حادثة وقعت له، فبدأ بسرد وقائعها بقصد كيل المديح لدهاء بعض الرفاق السوريين وشجاعتهم، فذكر بانه كان مع مجموعة من الرفاق عام1971 وكانوا في طريقهم لاجتياز الحدود السورية ـ العراقية سراً عن طريق فيش خابور بعد عودتهم من موسكو، وقبل وصولهم إلى ضفاف نهر دجلة بمسافة وقعوا بقبضة الهجانة (حرس حدود)  السورية، وكان معهم رفيق سوري غافل عناصر الهجانة وهرب وانقذ نفسه، أما هم  فساقوهم إلى المخابرات السورية (الأمن السياسي) في القامشلي، وقبل اتمامه للحديث والواقعة لاحظ أن الرفيق أبو وحيد قد نّزّ من محله وكاد ان ينط، وداهم المتحدث بسؤال:  

ـ وماذا جرى لكم؟ 

ـ أجاب: توجيه بعض الأسئلة لنا من قبل الجهاز وانتظرنا بعض الوقت عندهم ثم جاء الرفيق أبو جنكَو عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري إلى المخابرات وأطلق سراحنا واخذنا معه لاستكمال طريقنا نحو العراق وأردفه بسؤال أخر:

ـ وكيف عرف الرفيق أبو جنكَو بالموضوع؟ 

ـ اجابه: حتماً من خلال العلاقات، وإننا كنا قد ذكرنا لهم بأننا من الحزب الشيوعي العراقي وكنا في ضيافة أبو جنكو حسب تعليمات الرفاق السوريين لنا قبيل الانطلاق نحو الحدود. هنا رمقه أبو وحيد بنظرةٍ عميقة من عيونه الثعلبية التي من الصعب معرفة مغزاها ورسم على شفتيهِ بسمة أسى وتنهد بآهٍ مصحوبة من اعماقه ومشوبة بذكريات الماضي بحيث لا يعرف المرء أن كانت كدرة أم مبهجة، وأردف قائلاً: ـ الرفيق الذي هرب كان يريد اخبار الرفيق أبو جنكَو عن ما آل إليه وضعكم، انا الذي كنت (مفاجأة ثانية ـ لكنها طامة هذه المرة!) استدرك الرفيق المتحدث الموقف، وفكر من الأفضل كي لا يتورط بشروحات أخرى لا قيمة لها أن يترك الواقعة وما فيها على عواهنها، وإلا فسيقع في مطبات أخرى، فمسك نفسه وآثر الصمت، ومرت بقية الأمسية بسلام.

بعد ظهر اليوم الثاني من وصولهم، جاء الرفيق أبو وحيد وأبلغ مسؤول المجموعة لوحدهِ بحزم أمتعته ومرافقته! دون مقدمات أو إيضاحات، ولم يسأله المسؤول أيضاً أي شيء وامتثل لأمره وحزم حقيبته الظهرية، وودع رفاقه وركب خلف (أبو وحيد) على الدراجة النارية، مسافة أقل من نصف الساعة. طاف به بعض الشوارع ومرره ببعض الأزقة الترابية إلى أن وصلا إلى حيٍ أخر في المدينة، وتبادل الأثنان الصمت بالصمت طوال الطريق. وأمام أحد البيوت ترجلا من على الدراجة ودخلاه من دون ان يطرق الرفيق أبو وحيد الباب. في باحة الدار فسحة كبيرة نسبياً يتوسطها (صنبور) للماء استقبلتهما امرأة لطيفة الملامح ورحبت بهما ببشاشةٍ وابتسامةٍ رقيقةٍ تحيط بها بضعة أطفال في اعمار مختلفة، أمره الرفيق أبو وحيد وقال بهدوء بالغ لا يخلو من الصرامة، تبقى في هذا البيت ولا تخرج لحين يأتي واحد من رفاقكم للقاء بك، أطاع الأمر على مضض، ثم تركه وذهبَ بدراجته " مع الريح "، في الحقيقة لم يكن يعرف سبباً لعزله عن بقية رفاقه. انتابته بعض المشاعر المضنية، استعرض مع ذاته شريط جلستهم يوم أمس بكامل تفاصيله خشية أن يكون قد تجاوز ما مسموح بها من الأحاديث. لم يجد فيه ما يخدش أو يجرح المشاعر والأحاسيس ولا الإباحة لأمور الصيانة. منْ هو هذا الرفيق الذي سيزوره؟ انه يعرف بوجود الرفيق جلال الدباغ هنا، لأن في زياراته (جلال الدباغ) لبيروت كان يعرجُ عليه حيث يسكن، مرة برفقة الرفيق السوري سعيد دوكو ومرة مع الفلسطيني أبو زهير، وهو يعرفه وسبق أن عملا سوية في بغداد، وبينهما علاقة ودٍ ومعرفة عائلية. هل يكون هو نفسه؟ إذا كان هو نفسه لماذا لم يلتق به في اليوم نفسه؟ فكر مع ذاته ربما لأمور الصيانة ليس إلا، لأن ظروف الحزب صعبة والحذر واجب، المهم ليس امامه سوى الانتظار ربما سياتي غداً وتنجلي الأمور، أرشدته المرأةُ إلى غرفةٍ مفروشةٍ بالأفرشة الأرضية وكل مستلزمات السكن فيها وقالت هذه غرفتك، دلته على المرافق والحمام وسألت فيما إذا كانت لديه ملابس بحاجة إلى الغسل، أو إذا كان بحاجة للاستحمام، عرفت المرأة نفسها باسم (جليلة)، وعرف انها أبنة الرفيق (أبو وحيد). كانت بمنتهى الرقة واللطف والكرم خلال الفترة التي مكث في بيتها...الخ. مرت عدة أيام على بقائه في البيت لا أحد يزوره ولا حتى (أبو وحيد)! لكنه ظفر بما يكفيه من الوقتٍ لقراءة الكتاب الذي اقتناه في دمشق وكتاب أخر وجده في بيت جليلة أسمه (تحطمت الطائرات عند الفجر لكاتب يهودي أسمه باروخ نادل، يحكي قصة الجاسوس الإسرائيلي في قيادة القوة الجوية المصرية قبيل حرب حزيران 1967 فيه الكثير من المبالغة لكنه كان ممتعاً جداً). صاحب البيت، زوج جليلة أسطة بناء اسمه سليمان ويلقب (سليمان كابوي) لأنه يرتدي دائما( بنطرون جنس) إنسان هادئ وخدوم ومضياف ولطيف جداً، بعد عدة أيام من بقائه هناك ومازال مقطوعاً ولم يزره أحد، قال لجليلة هل أستطيع أن أخرج وأتجول في الأماكن القريبة من البيت، قالت أبق في المناطق القريبة ووضحت له كيفية العودة إلى البيت كي لا يضيع، "فاطلقت سراحه" لفترة قصيرة وخرج في جولة دامت قرابة ساعة، في طريق عودته رأى متجراً صغيراً مفتوحا تقرب منه وأجال فيه نظرة سريعة .رأى قناني(عرق).اشتهت نفسه الشربِ، اقتنى بطحة عرق بطة (ربع) مع علبة دخان خبّأ زجاجة العرق في جيب سترته، وقفل راجعاً إلى البيت، كان عشاؤهم في ذلك اليوم (كبيبات) وهي أكلة كردية معروفة في الجزيرة ولذيذة، أدخر بعض الكبيبات إلى الساعة المتأخرة من الليل، وعندما أزف الوقت عبأ رأسه بالبطحةِ خلسة. خوفاً من أن يراه من في البيت ونام ليلة هانئة ناسياً (أبو وحيد) وأسباب عزله عن رفاقه. في اليوم الثاني (صادف الخميس)، ويظهر أنه كانت لبعض الرفاق السوريين مناسبة سعيدة فجمعهم سليمان في بيته، وبحكم تواجده في البيت أصبح ضمن المدعوين. في تلك الأمسية ظفر بفرصة جميلة حيثُ سنحت له التعرف عن قرب على بعض الوجوه من الرفاق في قيادة منظمة الجزيرة للحزب الشيوعي السوري (حسين عمرو عضو اللجنة المركزية، نوري فرحان ممثل الحزب في مجلس المحافظة وشيخ موس (أبو خورشيد) ـ عضو مكتب المنظمة وسعيد دوكو وأخرين). أما هو فلم يكن يعرّف نفسه إلا لرفيق من الحزب الشيوعي العراقي.. الرفاق السوريون والشعب السوري بشكلٍ عام كانوا خلوقين وظريفين في أمسيات السمر، ويبدعون فيها المداورة بين الفكاهة والمداعبة وبين الجد والوقار. كانت جلسة دافئة وجميلة جمعت بين الجد وتبادل الآراء وبين المرح والسمر. بعد أيام زاره الرفيق جلال الدباغ (أبو محمود) مسؤول محطة القامشلي ورحب به دون أي تفصيلات في الحديث لكنه استشفَ منه أنه سيبقى هنا لبعض الوقت، وبعدها بأيام التقى هو وجلال الدباغ معاً بالرفيق سليمان يوسف (أبو عامل) وقد أبلغوه بمهمته الجديدة وهي ان يكون (مساعداً) للرفيق جلال في هذه المحطة، وأن هذا البيت سيكون مقره في الوقت الحاضر. آنذاك توضح له ما كان يقصده الرفيق أبو عامل من سؤاله في الطريق بين بيروت ودمشق فيما إذا كان الرفاق في بيروت قد ابلغوه عن وجهته.

هنا بدأت المهمة الجديدة التي ستدوم تسع سنوات ونصف سنة، بين مساعد المسؤول والمسؤول، التي تلقن فيها دروساً بليغة اغنت تجاربه في الحياة وعمقت من معرفته ودرايته من خلال الحوادث التي عاش وقائعها وتماسه بالشخصيات السياسية العراقية (العربية ـ الكردية) والسورية (الكردية ـ العربية) والكردية التركية، التقى ببعضهم وعمل مع البعض الأخر.

القامشلي قضاء تقع في آخر النقطة في شمال شرق سوريا والتابعة لمحافظة الحسكة، وهي مدينة فيها الغالبية من القومية الكردية إلى جانب الأقلية السريانية والآشورية ويليهما عرب الغمر( الذين تم استقدامهم إلى المدينة بعد أن غمرت اراضيهم نتيجة بناء سد الطبقة على نهر الفرات في مدينة الرقة العربية ووزعت عليهم الأراضي الخصبة وسمي بالحزام الأخضر الذي أحاط بالقرى الكردية في القضاء وتوابعها) وفيها ايضاً بحدود اربع عوائل يهودية وهم ممنوعون من السفر لكنهم يعيشون بأمان واحترام وسط سكان المدينة (والقامشلي مدينة بسيطة ،وستكون رغم بساطتها من أحب المدن إلى قلبه لأنه وجدَ نفسه وكأنه بين أهله بحكم علاقات الصداقة التي بناها هناك خلال قرابة السنوات العشر التي قضاها في هذه البقعة النائية في سورية، لطيبة أهاليها وكرم ضيافتهم له وللعراقيين).

عرض مقالات: