بطاقة عيد

ذهبت وكان الباج (شعار الاتحاد) معلقا "مدنبسا" على جيب قميصي، ولم ينتبه أحد من رجال الامن البعثي في مطار بغداد، عند تفتيشي قبل الاقلاع للطائرة المتوجهة إلى براغ، وكان الباج وهوية الجامعة المستنصرية والاطلس العراقي هي كامل امتعتي بالتوجه نحو الدراسة في بلاد التشيك العام 1975.

 منذ بدايات نشأتنا وحماسنا للعمل الطلابي وبداياته في متوسطات واعداديات الديوانية، كنا وبعد لقاءات متوزعة في انحاء مدينتنا التي كانت تحتضننا كأم حنون، وكانت المقاهي الشعبية هي محطاتنا الثقافية، الادبية والسياسية، وهناك كنا نشعر بان طاقاتنا الشبابية ليست لها حدود، خاصة واننا جميعا، كنا نهتم بقراءة الكتب بمختلف انواعها، من القصة إلى الشعر أو النثر، الأدب الكلاسيكي العام، الصحف العراقية وخاصة جريدة طريق الشعب، مجلة الثقافة الجديدة، وكتب المثقفين والشعراء العرب، وغيرها وهناك بعد " استكانات الچاي العراقي الاسود " كنا نستلذ بالنقاشات وتنوعها ونخرج من المقهى ونحن نشعر "بنشعه ونفحه ثقافية ثورية في كل مرة."

وها أنا أعود ثانية إلى غرفتي الصغيرة بين الطابق الارضي وسطح الدار، وعقدت أول لقاء خاص بيني وبين زميلي البديع سمر عبد الكريم ختلان الأخ الاصغير لزميلي زياد ختلان، ولم يعرف سمر من القصد بدعوتي له إلى بيتنا، وحضّرت له القرطاسية والأقلام الملونة والجافة وأوراق النشرات الدورية الجدارية، وسمر كان مندهشاً وسألني: ماذا نعمل هنا اخي بدر؟

أجبته: نعمل وبصناعة يدوية كارتات أو معايدات بذكرى تأسيس اتحاد الطلبة العام بالجمهورية العراقية، في 14 نيسان، وولادة الاتحاد في عام 1948!

وكان الباج (الموجودة صورة له) هو الباج الوحيد الذي كنت امتلكه واعتز به وهو واضح وجميل ووضعته امام الزميل "سمر" لكي يرسمه لنا 30 مرة ل 30 كارتا ومعايدة وكنت أخط التهنئة على الكارتات الجاهزة، واستمرّ عملنا هذا بعد عدة ايام وخاصة بعد الانتهاء من الدوام اليومي، وقام برسم الشعار والتهنئة بصورة مكبره على الورق الابيض المقوى بقياس 1 متر ضرب 1،5 متر.

اتممنا هذا العمل بعدة أيام قبل الاحتفال بعيد تأسيس الاتحاد وقررنا الاحتفال في بيت زميلنا البديع صائب كاظم الغنام، وكان أول احتفال جرت التحضيرات له وبحضور الزملاء مؤيد كريم، الشهيد يوسف محمد طه، سعد زغير كاظم، كريم جاسم حمادي، سمر وزياد عبد الكريم ختلان، ومهند مجيد، وآخرين لا اتذكر اسماء البقية من الزملاء المتحمسين للعمل الطلابي آنذاك، وفي الصباح المبكر " في تمام السابعة صباحاً قمت بلصق النشرة الطلابية الجدارية وفيها المقالات التي حرر اغلبها زميلنا زياد ختلان، ومؤيد كريم، وهاشم نعمة، وسعد زغير ابو نورس، والذي زرته مساءً في البيت واعدنا كتابتها وقام سعد بإضافة الرسوم اللازمة كونه يرسم بعض اللوحات.

ووزعنا التهاني في ايام معدودة قبل 14 نيسان، وبعدها استمر عملنا لأربعة أعوام متلاحقة كنا نقوم بنفس العملية مرتين، مرّة في بيت الزميل مهند مجيد ابو لينا وأبو سؤدد، وعلّقنا النشرات الجدارية البديعة بفرح ونشوة، والتي تحتوي على مطالب الطلبة في ذلك الوقت بحرية الفكر والنشر ومساعدة الطلبة الفقراء وتوفير أفضل الكتب الدراسية، وحق تكوين اللجان الطلابية والدفاع عن حقوقهم وخاصة زملاءنا القادمين من الريف، وتسهيل المواصلات لهم وحتى المطالبة بالتغذية المدرسية. واستمر عملنا هذا لمدة 4 أعوام على التوالي اغاظت المنظمة الارهابية وزمرتها وكانت تسمى (الاتحاد اللاوطني لطلبة العراق والتي تم تأسيسها ودعمها ماليا من قبل المخابرات الامريكية المركزية)، وقام رئيس الجلاوزة من الاتحاد اللاوطني " بتمزيقها أمام الطلبة في باحة الاعدادية، والغرض منها كسر طموح وتحدّي الطلبة الثوريين اليساريين، وكان الغرض من هذه الحركات هو التمهيد لسيطرة البعث الفاشي على مرافق الحياة في البلاد! ومن ثم قامت هذه العصابات بتمزيق كل ما نكتب وننشر ونعلق، ووصلت إلى حد إثارة السجالات والتحرش والضرب القاسي وتكسير الاسنان كما حدث لزميلنا عماد حسوني والضرب بالأيدي لزميلنا هاشم نعمة والاعتداء على مؤيد كريم وزملاء كانوا أبطالا في تحدّيهم، ولم تثنيهم هذه المواجهات اللا أخلاقية من زمر البعث، بل كان سلاحهم الفكري أقوى.

عام 1974 كنت لا أزال أواصل العمل الطلابي في لجان تنظيم الجامعات في بغداد وعملت في لجنة قيادة تنظيم الاتحاد العام لطلبة العراق في الجامعة المستنصرية مع زميلنا سعد زغير أبو نورس، وطلبة من مختلف انحاء العراق وكنت عضواً في لجنة تنظيم الجامعات العراقية في بغداد وهناك تعرفت على زميلنا اسماعيل السامرائي في الاجتماعات التي كنا نعقدها في دربونة الحيدرخانة مقابل شربت حجي زبالة وفوق محل كعك السيد، استأجر لنا زميلنا اسماعيل غرفة تابعة له ولأربعة طلبة من الديوانية أذكر منهم زياد ختلان ومالك البديري، وتحت الدار بالجهة المقابلة كانت التغذية للطلبة الجامعيين الفقراء يأكلون وجبات غذاء لذيذة في مطعم " الفوكة" (فاصوليا، باذنجان ، باميا، لحم مع الرز ) وكانت وجبات راقية ! لازلت أشم رائحتها إلى هذا اليوم، ومن بعدها نزور مقاهي الزهاوي، البرلمان، مقهى ام كلثوم، والمقهى المحبب البرازيلية، ولكن نقاشات الطلبة اليساريين الثوريين من مختلف جامعات ومعاهد بغداد كانت في مقهى البرلمان في شارع الرشيد وخاصة الصحفي عرفان رشيد "في ايطاليا حاليا " انها ايام النضال الطلابي التاريخي الذي لا يمكن محيه من الذاكرة أبداً.

كانت أيام لها عذوبة ماء الفرات ونسمات نخيل بساتين الديوانية من السماوة إلى الدغارة إلى السنية والشامية وغماس والشافعية والحمزة الشرقي وكنا نتحاور ونتناقش ونعقد الاجتماعات الطلابية في الاحياء الفقيرة آنذاك في الديوانية مثل الخصيمة والعسكوري والحي الجمهوري وبيوت أهل الشط اليساريين الثوريين الابطال، وبعدها في حي العروبة، والجديدة والفاضلية والسراي وحي الجزائر وأحياء الجانب الصغير.

الصورة لبعض زملائنا الذين ناضلوا سوية وبنشاط في تنشيط وبناء اتحاد الطلبة العام في الديوانية، وهم كثيرو العدد وقسم كبير منهم قد استشهد في الثمانينيات واعدموا، لهم المجد والخلود، وموفور الصحة للأحياء منهم.

عرض مقالات: