بتاريخ السادس من آذار عام 1980، اعتقلت للمرة الثانية من قبل الأجهزة الأمنية في طهران. الاعتقال الأول كان في حزيران عام 1964، وقد أمضيت سبع سنوات في السجون الإيرانية إلى أن أطلق سراحي وجرى تحويلي في المركز الحدودي في المنذرية إلى الأجهزة الأمنية العراقية في أيار عام 1971. بعد الثورة الإيرانية لجأت من جديد إلى إيران بعد الهجمة الشرسة التي تعرض لها الحزب الشيوعي العراقي من قبل الأجهزة الأمنية العراقية في عام 1978، وكان من نصيبي أن ألتجأ من جديد إلى الأراضي الإيرانية بناء على قرار قيادة الحزب الشيوعي العراقي. وحسب الأصول جرى التحقيق وساهم في التحقيق نفس رجال الأمن الذين حققوا معي في عام 1964، وكأن ثورة لم تحدث في إيران عام 1979. بعد سلسلة من الإجراءات، استقر بي الحال في سجن "إيفين" المشهور في ضواحي العاصمة الإيرانية وفي القاطع الثالث من السجن. وقد شاركت في السجن مجموعة من السجناء من مختلف التيارات السياسية يسارية ووطنية وحتى دينية بعد أن جرى احتكار النشاط السياسي التيار الديني المتطرف والهيمنة على جميع مرافق الدولة. كنا نفتقر في السجن إلى الكتب وحتى الجرائد الرسمية، وكان علينا أن نستمع باستمرار إلى الأدعية التي تنقلها مكبرات الصوت إلى المعتقلين، إضافة إلى قيام بعض طلبة الحوزات الدينية بإلقاء محاضرات على المعتقلين، وهي محاضرات تفتقر حتى إلى محتوى المضامين الموجودة في الكتب الدينية. فعلى سبيل المثال، جاء أحد المحاضرين وشرع بإلقاء محاضرة حول الكفر والكفار، وعرج على المسيحيين واليهود، واعتبرهم فصيلاً من الكفار الواجب إزهاق أرواحهم. بعد انتهاء المحاضرة، بدأت الأسئلة تنهار على المحاضر، وطرحت أنا على المحاضر سؤالاً يتعلق بكفر المسيحيين واليهود الذين يعتبرون في النص القرآني من أهل الكتاب، وهناك آيات قرآنية تتناول المسيحيين بشكل إيجابي مثل سورة مريم وسورة آل عمران وغيرها من السور القرآنية التي تتناول الدين اليهودي، فكيف تنعتهم بالكفار خلافاً لما جاء في القرآن وهو المرجع الديني لك وللمسلمين. جن جنون المحاضر، وشرع بتوجيه السباب والشتائم إلى الشيوعيين الكفار، بعد أن عرف إنني شيوعي عراقي، ثم جمع أغراضه وغادر المكان على عجل وسط سخرية المعتقلين.

في السجن كان لدينا المزيد من أوقات الفراغ، كنا نجتمع أحياناً لإلقاء محاضرات حول مادة الفلسفة والتاريخ وتاريخ اليسار والحركات العمالية. ولكن يبقى لدينا الكثير من الوقت لنمارس أحياناً لعبة الشطرنج على سبيل المثال أو ألعاباً أخرى رائجة في إيران. ولكن كانت تواجهنا الكثير من العوائق والمحرمات لممارسة لعبة الشطرنج، لأنها كانت من الممنوعات في قوانين السجن الإيراني السارية بعد تولي الحكم من قبل رجال الدين في إيران. وهكذا كنا نسعى إلى صناعة بيادق الشطرنج من خمير الخبز ونلعب بها بعد تنشيفها. كما سعينا إلى قيام بعض السجناء بالتناوب إلى تولي الحراسة خشية دخول الحرس وكشف جريمتنا بلعب الشطرنج خلافاً للأوامر الصدرة من إدارة سجن إيفين. في أحد المرات، حيث كنت أمارس لعبة الشطرنج مع أحد الرفاق الإيرانيين، وكان هناك سجين يتولى المراقبة خشية هجوم الحرس على غرفتنا. ولكن من سوء الحظ أن هذا السجين ترك مهمته من أجل قضاء حاجته في دورة المياه. وشاءت الصدف أن دخل الحرس وعثروا علينا متلبسين "بجريمة" ممارسة لعبة الشطرنج. وعلى الفور صدرت الأوامر الصارمة باصطحابنا إلى إدارة السجن، حيث جاء حاكم الشرع، أظن أسمه كيلاني، وهو منصب قضائي لرجال الدين ساد بعد الثورة إثر إزالة المحاكم المدنية في إيران، وبعد قراءة نص الاتهام على طريقة حكم قراقوش، حكم حاكم الشرع علينا بعقوبة 20 فلقة جراء ارتكاب "جريمتنا". تحملنا أذى الفلقات بعد أن تورمت أرجلنا، وطلب منا الحراس الوقوف والرجوع إلى القاطع. أبديت عدم قدرتي على السير، وطلبت من الحرس لقاء حاكم الشرع. وبعد إصراري، جاء حاكم الشرع وقلت لها لدي سؤال واحد لا غير، وهو لماذا تعتبر لعبة الشطرنج جريمة، وهي لعبة تشحن الذهن والفكر، وليست كالقمار الذي يهدر أموال خلق الله. وأجابني على الفور.... فقهنا يحرم الشطرنج لأنه عندما جيء برأس الحسين إلى دمشق في بلاط يزيد، كان يزيد يلعب الشطرنج، ولذا فهذه اللعبة محرمة عندنا. وسألته على الفور، لنفترض أن يزيد كان يتناول الوجبة الإيرانية اللذيذة "چلو كباب"، فهل ستحرمون هذه الوجبة على عباد الله؟؟؟ ولم تمض سوى ثوان معدودات حتى انهال علي بالشتائم وأسوء العبارات، وشُحطت إلى غرفتنا في القاطع.

 

عرض مقالات: