بمناسبة أعياد رأس السنة وخروجه من المشفى

  قبل Hعوام، وفي واحدة من اللقاءات الأنصارية، سمعته يقول أثناء حديثه مع مجموعة من الانصار: (اننا منفيون في الغربة ومنفيون في الوطن)!، فتيقنت من حقيقة منفانا الذي أخذ كلّ المسافة الممتدة بين حلمنا الأبيض وواقعنا القاتم، وهي كما كان يعرفها النصير لطيف حسن بأنها مسافة طويلة ومليئة بالدموع واللهاث والعرق.

التقيته مرة اخرى، وكنت برفقة بعض الاصدقاء في زيارة له في بيته الذي يقع في الجزيرة البعيدة عن العاصمة كوبنهاكن، فوجدنا الرفيق (أبو واثق) يرسم جروح الاغتراب ليجعل اثارها نوافذ خالدة يمكن ان نطلّ منها على مشهد الخراب الذي اجتاح مكان طفولتنا ونشأتنا الاولى.

وقبل بضعة اسابيع، اخبرني الصديق النصير المخرج علي رفيق، بانّ لطيف حسن تعرض الى انتكاسة صحية اضطرته الى دخول المستشفى، وبعد متابعة وانتظار، استطاع أبو واثق أن يتجاوز المحنة ويعود الى بيته ثانية، لكنّ صحته مازالت لا تسمح له بأعادة قواربه المحملة بالذكريات والاهتمامات الفنية والثقافية الى مراسيها الآمنة.

ربما فاتني الوقت لأتعرف على المزيد من مشوار الصديق (ابو واثق)، لكني لا أفقد الأمل بأن تتاح لي فرصة اخرى اذا ما تحسنت صحته أن اكتب عن حقبة العنفوان الثوري والثقافي التي نضجت فيها صورة تطلعاته، وعن ذلك المكان (الرحم) الذي خرجت منه تجربته الثرية، ومع ذلك فأني افتخر بعطائه الذي قدمه خلال مسيرته النضالية والثقافية الطويلة، واتمنى له عودة سريعة.

تعرفت على النصير (ابو واثق) في كردستان، وكان لقائي الاول به في (حوض بشتاشان) حيث يبعد فصيل الاعلام عن المدفعية فقط عشرات الامتار، ثم تكررت لقاءاتنا في قواطع الجبل الاخرى وهي كثيرة. كان هادئا وهامسا وزاهدا ولطيف الكلام والمعشر، وكان يقوم بالاضافة الى مهماته كنصير (حراسات وخفارات وتحطيب وغيرها...)، بمهمة محرر في صحافة الحزب واذاعة صوت الشعب العراقي، وكان طيلة السنوات التي قضاها هناك ((1980_ 1988))، يتابع باهتمام كبير جميع التفاصيل والاحداث اليومية للانصار، وهو في رأيي أفضل من جمع المواقف والقصص والخواطر والقصائد والصور والذكريات الانصارية.

عندما استقر في الدنمارك، كتب العديد من المقالات والبحوث والذكريات، وكان ابرزها ((فصول من تاريخ المسرح العراقي))، وهي مجموعة مقالات تتوزع على  24 فصلا، خصصها لتاريخ المسرح منذ بداية دخوله الى العراق في العام 1880 أو قبل ذلك بقليل وحتى العام 2003. وتحتوي هذه الكتابات على الكثير مما لا نعرفه عن المسرح العراقي، بالاضافة الى روّاده وشخصياته ومبدعيه وامكنته ومؤسساته وعوامل نجاحه والعراقيل التي واجهته.

وافرد فصلا خاصا لمسرح السجون تحت عنوان ((مسرح السجون المنسي))، تطرق فيه الى دور الحزب الشيوعي العراقي واليسار عموما في احتضان المسرح حتى داخل قاعات السجون، فمثلما حوّل الشيوعيون غرف السجن الى مدارس للفكر والثقافة، حوّلوها ايضا الى مسارح. وفي بداية الخمسينات كما يذكر لطيف حسن، كان يُخصص شهريا ثلاثون دينارا من مالية السجناء الحزبية في (سجن الكوت)، تحت باب (صرفيات الندوات والنشاط المسرحي)، وفي سنة 1953 عرضوا في السجن مسرحية (المفتش العام)، ومسرحية (بزوغ القمر)، وذلك قبل ان تُعرض هاتان المسرحيتان خارج السجن بعشر سنوات تقريبا، بالإضافة الى مسرحيات يوسف العاني وشهاب القصب الانتقادية الساخرة ذات الفصل الواحد.

امّا في ما يخص حركة الأنصار، فقد كتب النصير أبو واثق العديد من النصوص في مبحث بـ 68 صفحة، تحت عنوان ((حركة الانصار الشيوعيين (1979_ 1988) ما لها وما عليها))، تناول فيها حياة الأنصار بشكل عام، وحياتهم الثقافية بشكل خاص، وقد تابع الكثير من نشاطاتهم واماسيهم السياسية والترفيهية والاستذكارية، بالاضافة الى الإبداع الأنصاري الغزير في مجال الرسم والفن التشكيلي وكتابة النصوص الادبية من خواطر وقصص وقصائد، وفي ميدان المسرح، فقد أستطاع أن يتابع ويسجل ما يقرب من 96 عرضا مسرحيا، بما فيها عناوين المسرحيات ومؤلفيها والمخرجين والممثلين من الانصار، وايضا مكان العرض وعدد الجمهور المتفرج.

لكن أهم ما انجزه الرفيق لطيف حسن في مجال الكتابة الانصارية، هو كراسه المعنون بـ ((الصحافة الدفترية للانصار الشيوعيين.. بيبلوغرافيا لصحافة فقدناها إلى الأبد))، والذي وصف فيه (الصحافة الدفترية) بانها عملية خلق، وفّرت للانصار متعة الاستغراق في عالم الابداع الذي ابتعدوا عنه مضطرين، ووفّر لهم فرصة الانشغال بعالم أوسع من نطاق الهموم اليومية في القواعد والمفارز، كما انها عبارة عن دفتر يوميات للانصار، سجلوا فيها معظم خواطرهم وأحلامهم. ومن خلال كتاباته هذه، أراد الرفيق أبو واثق أن يلفت النظر ويدعو إلى الاهتمام بهذه الممارسة الثقافية الخاصة كتجربة رائدة ووثيقة تاريخية، مكرسا جهدا استثنائيا لتسجيل عشرات المجلات والجرائد الورقية والنشرات الجدارية، بما فيها محتوياتها ومواضعيها المتنوعة واعدادها المختلفة واسماء كتابها الانصار من مختلف القواطع والمناطق في جبال كردستان.

 

عرض مقالات: