عد هذا العنوان من اشد المواضيع المهمة والخطيرة، حيث يحتاج الى التأني والصبر والاطلاع على الكثير من المصادر المهمة والوثائق الخاصة بالحزب الشيوعي، والاطلاع على بيانات الأجهزة الأمنية الحكومية وحزب السلطة في تلك الفترة، اضافة الى المعلومات من المعنيين او من الأحزاب الاخرى.

من خلال تواجدي لتسعة أعوام في كردستان، التحق فيها المئات من الأنصار، وفي نفس الوقت التحق فيها العشرات من عناصر الأمن والمخابرات، والذين كانوا مرسلين وبعضهم مدربين بشكل جيد، وقد Hدخلوا دورات امنية ودراسة تثقيفية للمواد التي يتثقف فيها الشيوعيون من الفلسفة وتاريخ الحركات العالمية والماركسية والاقتصاد وغير ذلك من المواد. ودخلوا هؤلاء دورات تأهيلية في فن التجسس وطريقة التعامل مع الاخر، وهم مهيئون في معاهد خاصة ومدربون على كل اشكال التعامل وفي الظروف المناسبة.

كان هناك صراع كبير بين دولة لديها كل الإمكانيات المادية واللوجستية والخبرة من قبل دول لها باع ومعرفة جيدة بأساليب الأمن والمخابرات واجهزة الاتصال، وبين الحزب الشيوعي العراقي الذي ليس لديه الإمكانيات الكبيرة في مجاراة النظام وقوته، ويحاول اعادة التنظيم من خلال ارسال بعض رفاقه الى داخل الوطن، من الذين تتوفر فيهم الإمكانيات والخبرة والدقة في العمل والمعرفة في التخلص من ازلام النظام واجهزته المخابراتية.

لقد حاول الحزب بعد الهجمة الشرسة عليه من اعادة التنظيم والاتصال بالرفاق المقطوعين. وقد اشارت السلطة الى ذلك (دخول اعداد من العناصر الشيوعية وبمستويات مختلفة الى جميع المحافظات وفعلا حققت هذه العناصر صلات تنظيمية مع تنظيمات الداخل، وأمنت صلتها بالمركز القيادي المتواجد في (كردستان) عن طريق المراسلة الحزبية (راجع: بيان سري وشخصي العدد 78/ق5/66477 في 8/12/1983 الى الرفاق مدراء أمن المحافظات). وحاول الحزب من خلال رفاقه الأنصار او من الرفاق المتواجدين في الداخل من اعادة بعض التنظيمات وبشكل سري للغاية، ونشط في توزيع البيانات والبوسترات وجريدة الحزب.

وقامت السلطة بتوجيه عناصرها الأمنية في بذل الجهد من اجل فرز الشيوعيين النشيطين من الذين تركوا العمل الحزبي (للحزب الشيوعي)، وقامت هذه الأجهزة بجرد المعامل والدوائر الحكومية ومعرفة خلفياتهم السياسية والاجتماعية ومحاولة تطويق نشاطهم بالطرق المتاحة من الاعتقال او السجن وإعلان البراءة والتوقيع على قرار 200 الذي يجب بموجبه الابتعاد عن السياسة او عن العمل مع حزب اخر غير البعث.

ووردت رسالة بهذا الخصوص من مدير الأمن العام تقول (.. ايها الرفاق لا يمكن لحزب جرى تهديم تنظيمه وكشف عناصره عن طريق اجهزتنا، ان يعيد بناء تنظيمه مرة اخرى بدون ان نملك التفاصيل عن هذا التنظيم، وان حصل ذلك فإنما يدل على ضعف عملنا الأمني.. لذلك نؤكد على اختراق التنظيم بشتى الوسائل الأمنية والعمل على تطويق هذا النشاط، واعلامنا بما يستجد لديكم)[1] .

ومن خلال متابعة اعضاء الحزب تم اعتقال عدد من هذا التنظيم الحزبي السري، واستشهد العديد منهم من خلال المواجهة والمقاومة بالسلاح وبطرق مختلفة (هناك من أحرق نفسه مع ادبيات ووثائق الحزب)، او من استشهد تحت التعذيب الوحشي، او أعدم وهم بالمئات وقد كشفت الوثائق الرسمية للأجهزة الأمنية عن ذلك بعد سقوط النظام 2003.

ولم يكن ببعيد ان البعض من اعضاء الحزب من الذين تم القاء القبض عليهم من قبل الأجهزة الأمنية، قد تعاون معها نتيجة التعذيب والترهيب والترغيب، ومنهم من لم يخبر حزبه بذلك مما جعله يعمل بشكل مزدوج بين الحزب وبين الأجهزة الأمنية، وبذلك اخترقت هذه الأجهزة تنظيمات الحزب وقد أضر ذلك بالعديد من التنظيمات السرية التي بناها الحزب طيلة الاعوام السابقة.

هذا الى جانب الاعتماد على اساليب اخرى في التسقيط، بما فيه الأخلاقي، فحين يتم اعتقال مواطن عراقي ينتمي للحزب الشيوعي تجري مساومته اما بالاعتداء عليه اخلاقياً او على أقرب الناس اليه وبين ابقائه حياً شريطة ان يتعاون معهم او يصفى جسدياً، هذا الى جانب اسلوب تأطير المجتمع والسيطرة عليه.

ان هذه الحملة اخذت مديات أوسع سنوات 1977 - 1979 ارتباطا بالحملة المسعورة التي شنها نظام صدام حسين المقبور وأجهزته الأمنية مستفيداً من الاجواء التي وفرتها السنوات الاولى من عمر التحالف بين الحزبين عام 73حيث سادت فيها اجواء الانفتاح النسبي والنشاط العلني للحزب الشيوعي العراقي ووجود بعض المقرات في بغداد والمحافظات. إلا ان ذلك لم يوقف حملات الاعتقال والتسقيط التي كانت قائمة على قدم وساق، إذ وقع الكثير من الرفاق ضحية لهذه الضغوط في وقت لم تكن المواجهة متكافئة بين الطرفيين.

أن هذه الموضوعات، تضعنا أمام مهمة صعبة وهي تسليط الضوء على مرحلة في غاية التعقيد، خصوصا في إطار الحديث عن طرفي المعادلة، البعث المهيمن على الثروة والسلطة والحزب الشيوعي العراقي، الخارج من تحالف كان ثمنه غالياً، تكلل بتصفيات جسدية لنخبة من خيرة كوادره المجربة، ابتداءً من محمد الخضري وستار خضير مروراً بشاكر محمود ورفاق آخرين، تمت تصفيتهم في اقبية المخابرات أو الاغتيالات، الى جانب الكثير ممن زج بهم في المعتقلات وأقبية الأمن.

وحين توجه الحزب الى الكفاح المسلح صار من اللازم تجميع القوى من جديد. ومن الطبيعي أن يتم التوجه الى من هم الاقرب، اي من هم في الخارج، في بيروت واليمن بشكل خاص، وهكذا بدأ الضخ من الخارج. وبما ان التوجه هو الى اعادة لملمة الحزب والرفاق، فأن التوجه للداخل كان ضمن الأولويات. وفي وقت تعزيز تواجد الحزب في كردستان العراق وإعلان الكفاح المسلح واصلت اجهزة المخابرات العراقية عملها من خلال عملائها بجمع المعلومات وتحليلها، وصار واضحاً لهم ان الحزب يكرس جهداً كبيرا للعمل في الداخل من خلال ارسال كوادره الحزبية لأجل اعادة التنظيم. ولهذا عمدت اجهزة الأمن والمخابرات التابعة لنظام البعث العمل على عدة مسارات، الاول هو تكوين ما يشبه التنظيم الحزبي لحزب شيوعي مزعوم لتدريب اعضائه للانخراط في صفوف التنظيمات الحزبية، ولكي يمارسوا ادوارهم وفق المعلومات التي تصلهم من قياداتهم الأمنية، كما تقوم بدفعهم للالتحاق في صفوف الحركة الأنصارية في مختلف القواطع، آخذة بنظر الاعتبار الخلفية التاريخية لهؤلاء، أي من اللذين لديهم اقارب شيوعيين او من عوائل شيوعية معروفة من اجل الحصول على التزكية المطلوبة، اما المسار الثاني فكان عن طريق استدراج بعض الكوادر الحزبية وحتى الرفاق العادين الى العمل في الداخل عن طريق عوائلهم وحين تصل الفريسة يقومون اما بإسقاطها ودفعها للتعاون معهم او يصفونها جسدياً، هذا طبعا الى جانب، استدراج الرفيقات والرفاق للعمل في الداخل .

في جميع قواطع الحركة الأنصارية وفي الافواج كان لدينا سجون، وكانت مليئة بهؤلاء العملاء، يتم التحقيق معهم والكثير منهم يتم كشفه، خاصة وان المحققين هم من خريجي جامعات الدول الاشتراكية اضافة الى انهم حقوقيون ولديهم خبرة جيدة بطريقة التعامل مع التخريب.

ان العملية المخابراتية عملية معقدة تحتاج الى المعرفة والاسلوب وفهم المقابل وطريقة تفكيره اضافة الى دراسة الواقع وظروف الحياة المعيشية وفن الاختباء واوقات العمل الحزبي وفهم العناصر التي يتم التعامل معها وهو عمل مضن ومرهق نفسيا وجسديا.

كما يحتاج فهم الموضوع الى دراسة تفكير المخابرات العراقية والأجهزة الأمنية ضد معارضيها وماهية التعليمات التي وجهتها الى عناصرها وماهي ادوارهم.

وتتطلب هذه الموضوعة إيلاء عناية كافية بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الفترة المحددة وتكتيكات حزب السلطة (حزب البعث) ومخططاته في (اجتثاث) الحزب الشيوعي العراقي من الساحة السياسية، ومناوراته في قيام الجبهة الوطنية وشروطه عند انفراط عقدها، وانتقال الحزب الشيوعي الى المعارضة وحمل السلاح واعلان الكفاح المسلح من اجل إسقاط السلطة الدكتاتورية.

لقد سعى النظام الى بناء اجهزة امنية عالية التنظيم في التنصت وربط العناصر بأدق التفاصيل، من اجل الاطاحة بمناويهم، والتشبيك مع جميع القوى المعارضة ومنها الأحزاب القومية الكردية والعربية وغيرها.

إننا نأمل في هذه الموضوعة الشائكة ان نعطي صورة واضحة عن عمل الأجهزة الأمنية والمخابراتية وتجنيدها الى عناصرها وارسال هؤلاء العناصر الى قواعد الحزب الشيوعي العراقي او الى تنظيمات الحزب في الداخل ليكونوا عيون الأمن والمخابرات فيها للفترة بين 1979 الى عام 1989.

وختاماً، لا يسعنى الا ان أقدم الشكر الى النصيرين العزيزين الدكتور لطفي حاتم (ابو هندرين) والدكتور ابراهيم اسماعيل (أبو دجلة)، على متابعتهما لعملي في كل فصول الكتاب، تدقيقاً وتصويباً. كما أوجه الشكر للأعزاء رشاد الشلاه والدكتور صالح ياسر والدكتور عقيل الناصري وللعزيز جاسم هداد الذين وفروا لي الكثير من المصادر واهتموا معي في انجاز هذا العمل. الشكر موصول أيضا للأعزاء الذين كتبوا لي النصير سامي سلطان (ابو عماد) وخولة مريوش والنصير حسين علي الظالمي (عادل). وأقدم الشكر الى الدكتور علي مهدي (ملازم ماجد) على مساعدتي في طبع كتبي والشكر الى جميع الأعزاء الأخرين الذين دعموني في المشورة والاهتمام بموضوعات الكتاب.

لابنتي العزيزة شلير الذي كرست جهدها في دعمي من خلال الاستنساخ والتصوير ومتابعة العمل.

[1]صلاح الخرسان صفحات من تاريخ الحركة الشيوعية في العراق ص180

فيصل الفؤادي

شباط 2020

 

 

عرض مقالات: