إلحاقا بالحلقات التي كتبتها والتي كنت أنشرها تحت هذا الاسم ابتداء من نهاية عام 2011 وجدت من المفيد العودة إلى الوراء وتدوين بعض ما لم يجر التطرق إليه من قبل، حول تشكيل مجموعة أنصارية في هضبة ختارة ودوغات وثم محطات الالتحاق المتعددة بأول قاعدة انصارية في ناوه زه نك في عام 1978.
البدايات .. الحملة والمجموعة الأنصارية الأولى
في عام 1978 عند بداية افتتاح دوام المدارس بعد العطلة الصيفية كثرت المضايقات ضد الطلبة الشيوعيين وأبناء العوائل الشيوعية في ثانوية الطليعة في قصبة تللسقف التي كنت أدرس فيها وكنت حينها طالبا في الصف الرابع العام وكانت هذه السنة الأخيرة التي درست فيها، إذ غادرت مقاعد الدراسة إلى الأبد، كان وقتها مدير الثانوية بعثيا أسمه أليشاع وكان ذلك الرجل المنتفخ وذو القامة المتوسطة وعينان ملونان وشعر يميل إلى اللون الذهبي عضوا في فرقة قضاء تلكيف لحزب البعث، وكان رأس أليشاع قليل الاستقرار وكثير الاهتزاز حتى كان المرء يشعر بأنه ربما يعاني من عاهة ما، ورغم هذا فقد كان كادر التدريس والطلبة يخافونه بسبب موقعه الحزبي، وكان أليشاع بين فترة وأخرى يقوم بعملية جرد للطلبة ومعرفة اتجاهاتهم السياسية من خلال توزيع قسائم رسمية صادرة باسم إدارة الثانوية، فيها أسئلة تتعلق بمعلومات كثيرة تخص حتى الحياة الشخصية للطلبة، ولما كنت من عائلة شيوعية معروفة لم أتردد من كتابة كلمة شيوعي أمام سؤال ..الانتماء السياسي الذي ورد في تلك القسيمة وعليه لمح لي لأكثر من مرة بأنه يعرف ماضي وماضي عائلتي ويعرف انتمائي السياسي، فعندما كان يصادف ذهابنا معا إلى الشارع العام بعد انتهاء الدوام كي يستقل منشأة نقل الركاب العامة المتحركة بين مدينة الموصل وألقوش والعائدة من الأخيرة للعودة إلى بيته في قصبة باطناية وأنا أستقل نفس المنشأة ولكن العائدة من الموصل للعودة إلى قرية دوغات أي كنا نفترق في اتجاهين متعاكسين، كان أليشاع يحاول أن يستفزني بأسئلة يستفز منها أغلب الشيوعيين وكانت تتضمن في خباياها نوعا من التهديد الناعم، وتكرر الأمر عدة مرات، ولكنني لم أكن أبالي بذلك ولم أكن أخشى تهديداته المبطنة بسبب عمري الصغير واندفاعي وقناعتي بالمعلومات التي كنت أمتلكها فكنت أحاول أن أكون طرفا متكافئا في الحوار وأدافع عن قناعاتي بشدة دون تحسب للعواقب، و مما يجدر القول إن أيامنا القليلة التي كنا نداوم فيها في هذه البداية لم تكن تخلو من تهديدات أعضاء الاتحاد الوطني حتى وصلت في عدة مرات إلى العراك بالأيدي .
كنت حينها عضوا في لجنة قاعدية ( أساسية ) ضمن منظمة الحزب في قرية دوغات رغم صغر سني ، هذه القرية المعروفة على مستوى منطقتنا باسم موسكو الصغرى، اضطرتنا ظروف القتال بين حزبنا وحدك في 1973 إلى ترك قريتنا ختارة والهجرة إليها (وقتها كانت الصفات الحزبية تمنح إلى العضو الحزبي وفق آلية يحددها النظام الداخلي للحزب، إذ كانت عملية الانتخابات السائدة منذ المؤتمر الخامس غائبة بالنسبة إلى أعضاء لجان المناطق فما دون، وكان تقييم الهيئة التي كان يعمل فيها والهيئة الأعلى كفيلا بتقديم العضو الحزبي لنيل صفة حزبية أعلى والتي كانت تلازمه أينما رحل )، وفي نفس الوقت كنت منتدبا إلى لجنة قضاء تلكيف وكانت هذه مسؤولية كبيرة.
في خريف ذلك العام بدأت حملة اعتقالات وملاحقات عامة ضد منظمات حزبنا على امتداد الوطن، وشملت منطقتنا أيضا بما في ذلك مدرستنا التي كان يتلقى عدد كبير من أبناء العوائل الشيوعية التعليم فيها من مختلف القرى المحيطة بـ تللسقف، حيث بدأ رجال الامن وكوادر حزب البعث بملاحقتنا في كل مكان في المدارس والبيوت والشوارع وأصبحت مفارزهم تداهم قرانا بحثا عن الشيوعيون حتى غاب وجودنا عن الدوام تماما وعن تلسقف كلها وغاب غالبية الرفاق الناشطين على امتداد قضائي الشيخان وتلكيف وريفهما عن النشاط اليومي العادي والتواجد بين الناس، فمنهم من أختفى عن الأنظار، ومنهم من قدم براءته من الحزب تحت الضغط والاكراه والتهديد والوعيد، طبعا أعداد هؤلاء كانت كبيرة وتسربت الكثير من المعلومات بأن بعضا منهم تعاونوا مع السلطات وقدموا معلومات عن رفاقهم وعن التنظيمات التي كانوا يعملون فيها بعد أن باعوا ذممهم مقابل بعض المال المذل.
هؤلاء الرفاق تجمعوا في هضبة دوغات وختارة بأسلحة قليلة جدا وخفيفة في نفس الوقت، كانت غالبيتها سكاكين وخناجر وعددا من المسدسات والرمانات اليدوية وربما بعض القطع من سلاح الكلاشيكوف والبرنو. وباشروا بتشكيل مجموعة أنصارية تستقبل الشيوعيين الهاربين من قرانا وبلداتنا من عمليات الملاحقة التي كانت تنظمها اجهزة الأمن البعثية والمنظمات الحزبية. حتى بلغ عددهم في مخابئها أكثر من أربعين فردا، وهم يتنقلون ويتجولون في شعاب هذه الهضبة ويبحثون عن وسيلة لحماية أنفسهم وممارسة دورهم في الوقوف بوجه حملة البعث ضد الحزب ومنظماته ورفاقه وعوائلهم.
ولما كانت دوغات المحطة الوحيدة في المنطقة لتلقى المعلومات الخاصة عن الحزب وتوجهاته في ظل اشتداد الحملة على منظماتنا والحصول على أخبار الرفاق وكيفية التعامل مع الأحداث، كلفت أنا مع الرفيق عادل عيسى ( النصير سعيد آطوشي) للبقاء مختبئين في القرية وذلك لكي نكون حلقة وصل بين الهاربين من حملة الملاحقة وبين تلك المجموعة الأنصارية المشار إليها والتي كانت تتشكل من غالبية الكادر الحزبي في منظمتي تلكيف والشيخان، فالذي كان يريد الالتحاق بها كنا نرافقه إلى أماكن متفق عليها بيننا وبين المجموعة الأنصارية، أما الذي كان يريد معرفة بعض القضايا بخصوص توجهات الحزب أو قضية أخرى فكنا على أهبة الاستعداد لتزويده بما كان يريد وفق توجيهات الرفاق في الكند وكانت عملية اللقاء بهم تتم بشكل مباشر أو عن طريق عوائلنا الكثيرة في القرية، التي كانت أبوابها مفتوحة لنا ليلا ونهارا رغم المخاوف، فكنت أنا وسعيد نتنقل من بيت إلى آخر دون أن نبقى في بيت من هذه البيوت إلا يوما واحدا أو يومين .
أستمر الأمر على هذا المنوال ربما عدة أسابيع ننتقل من بيت إلى آخر نستقبل الرفاق الهاربين من الملاحقات ونلتقي رفاق الكند (المجموعة الأنصارية) ، حتى بُلغنا ذات يوم بأهمية السفر إلى بغداد والاختفاء هناك لحين الاتصال بنا، وعليه رتبنا الأمر أنا والرفيق سعيد وسافرنا إلى بغداد دون عوائق، وهناك ألتقينا بعض رفاقنا من معارفنا وأصدقائنا ومن منظماتنا ومن الذين كانوا يعملون في بغداد والمدن القريبة منها على أمل الحصول على عمل ولكن كان في الأمر صعوبة بسبب الضغط النفسي المسلط على الجميع والناجم عن نتائج الحملة الموجهة ضد تنظيمات الحزب وخشية اكتشاف أمرنا للسلطات .
بقينا في بغداد نتنقل بين عدة أماكن عائدة لرفاقنا العاملين في بغداد كما أشرت وطال انتظارنا لرفاقنا من مجموعة الكند فلم نتلق منهم أي اتصال وغابت عنا كل أخبارهم، وعليه وبسبب قلقنا على مصيرهم وكيفية التصرف بشأن مصيرنا، قررنا العودة إلى دوغات مرة أخرى ولم نكن نحتاج إلى وقت كثير لكي نعد للعودة إذ سارت الأمور سريعا ووجدنا أنفسنا في مدينة الموصل، حرصنا أن نصل إلى القرية ليلا، ذلك لتجنب تسرب أية معلومة عن تواجدنا في المنطقة وتجنب أية ملاحقات أو مداهمات محتملة، فبعد أن قضينا نهارا كاملا في شعاب كند دوغات، توجهنا ليلا وفي وقت متأخر إلى القرية، ووقع اختيارنا أن نذهب للمبيت في بيت الرفيق عيدو عبدي ( أبو حلمي ) وهو من أقرباء الرفيق سعيد وزوجته هي عمة سعيد وهي شقيقة الشهيد أبو ماجد، توفت أثر حادث مؤسف بعد سنوات من هذا الوقت الذي أتحدث عنه، ومن المعروف إن الرفيق عيدو فُقد أو استشهد فيما بعد مع عدد من أفراد عائلته في عمليات الأنفال عام 1988 التي فقدنا فيها حوالي 200 فردا من أنصارنا وعوائلهم من الأطفال والنساء.
عند دخولنا إلى البيت وجدنا الجميع يغطون في نوم عميق، فتركناهم وشأنهم ورتبنا أماكن نومنا في غرفة مليئة بالتبن وهو علف حيواناتهم ومواد أخرى كانت وقودا للتنانير، فلما استيقظوا صباحا أصابتهم الدهشة لحالنا ولكننا أكدنا لهم بضرورة بقائنا في هذه الغرفة وأكدنا على أهمية أن يختصر أمر معرفة وجودنا بين أبو حلمي وعمة سعيد دون الآخرين، ذلك حفاظا على أمن العائلة ولكي يتسنى لنا اعادة الصلة ببقية عوائلنا التي تتصل بمجموعة الكند لترتيب اتصالنا بهم ولمواصلة تنفيذ أية مهمة يجري تكليفنا بها.
مرت أيام أخرى ونحن نستقبل بعض القادمين من قرى مختلفة محملين ببعض الأخبار والمعلومات عن الحملة في قراهم ونحملهم أخبار الحزب ونودعهم، وكانت أخبار الحملة تتوارد إلينا من مصادر أخرى عديدة ومعها معلومات عن تزايد أعداد الرفاق والرفيقات الذين يرغمون على تقديم براءاتهم من الحزب والتعهد بالامتناع عن العمل ضمن صفوفه وانسحاب البعض من مجموعة الكند وخصوصا لم يكن هناك وضوح لما سيقدم عليه الحزب، هذه الخسائر وهذه الأوضاع الحرجة التي كنا نتعامل معها على مدار كل ساعة وكل يوم كانت تثير فينا مشاعر الحزن والألم والغيرة على فقدان تنظيماتنا ورفاقنا ولكنها لم تكن تزيدنا إلا إصرارا وعزيمة لمقاومة جبروت البعث ودكتاتوريته والاستعداد للحفاظ على الحزب وتنظيماته .
وإزاء هذا الوضع وتمادي نظام البعث وسلطاته ومواصلة تطهير منظمات الحزب كانت قناعات الرفاق في الكند وحتى بقية الرفاق ممن استطاعوا الحفاظ على أنفسهم تترسخ أكثر فأكثر على أهمية اعلان الكفاح المسلح انطلاقا من هناك أو عند الالتحاق بالجبل، وأتذكر إنها (مجموعة الكند) حاولت إيجاد فرصة ووسيلة اتصال بالسيد محمود أيزيدي وهو أحد القادة العسكريين الأبطال في القيادة المؤقتة للحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادة المرحوم سامي عبد الرحمن في منطقة بهدينان، والذي استشهد في معركة بطولية في ( به رى كاره – Gara) جبل كاره فيما بعد في عملية عسكرية غادرة وشى به وبرفاقه أحد العملاء ضمن صفوفهم. ولكن يبدو أن امورا معينة تغيرت واتجهت اتجاها آخرا أدت إلى عدم تنفيذ هذه الوجهة وإهمال الالتحاق بالجبل، إذ أتذكر إننا بلغنا بأن قيادة الحزب تدعو الرفاق المتواجدين في الكند والمجموعات والمنظمات الحزبية المرتبطة بهم على ضرورة ترك وجهة السلاح وترك مخابئ الكند والبحث عن أماكن للاختفاء إلى حين أن تتوضح الأمور وإقرار وجهة معينة لعموم الحزب.. وعلى أثر ذلك بُلغنا مرة أخرى بوجوب السفر إلى بغداد وصار معلوما بأن وجهتنا التالية سيجري تحديدها هناك بعد وصول الرفاق أبو داود وأبو ماجد وأبو فؤاد وآخرين وبعد معاودة الاتصال بقيادة الحزب والتي كانت عن طريق الرفيق الفقيد أبو جوزيف (توما توماس) الذي كان عضوا في اللجنة المركزية للحزب وسكرتيرا لمحلية نينوى.
قرار الاختفاء الغير معروف أمده ولا إمكانيات الرفاق و قدراتهم على تحمله وظروفهم العائلية الخاصة، دفعت بعدد غير قليل من رفاق مجموعة الكند وأماكن الاختفاء الأخرى إلى العودة إلى بيوتهم و قراهم وبلداتهم وتقديم براءتهم إلى السلطات، ولابد من التأكيد هنا بأنه كان هناك عدد غير قليل من هؤلاء الرفاق لم يتحملوا ظروف الكند والمخاطر المحتملة ففضلوا تركه وترك رفاقهم حتى أحيانا دون إعلامهم، بالرغم من هذا كان هناك رفاق آخرون استطاعوا إيجاد أمكنة أخرى غير بغداد لمواصلة عملية الاختفاء لحين تلقي توجيهات معينة من الحزب بشأن مصيرهم ووجهتهم القادمة.
وللحديث صلة .....
ملاحظة – لم أتطرق إلى أسماء الرفاق في مجموعة الكند وذلك لسببين 1- كتب النصير صباح كنجي عن نفس الموضوع وأشار إلى العديد من الأسماء التي كانت ضمن المجموعة، وهكذا تحدث النصير أبو زكي في مذكراته الغير منشورة عن نفس الأحداث وأشار إلى اسماء أغلب الرفاق في هذه المجموعة 2- سأشير في الحلقات القادمة إلى اسماء الرفاق الذين التحقوا فعلا بقاعدة ناوه زنك من أبناء المنطقة في بداية تشكيل الحركة الأنصارية.