ولد هذا السليل الأكبر لجيله من الاسرة الشبيبية، والتي عرفت بوطنيتها واسهاماتها السياسية البارزة كما باسهاماتها الشعرية والثقافية، لوالد عرفته الحركتان الوطنية والثقافية العراقية واحدا من أبرز روادها. وتشبع اسعدا بتراث اسرته كما بتراث الحركة الوطنية العراقية المناوئ للهيمنة الاستعمارية البريطانية فبالإضافة الى والده المكنى “بسفير ثورة العشرين” كان عمه الشيخ محمد باقر الشبيبي هو الآخر من اقطاب ثورة العشرين الوطنية اذ أصدر صحيفة “الفرات” التي نطقت باسم الثورة التحررية ضد وجود الاستعمار البريطاني في العراق مما عرضه آنذاك للملاحقة والاضطهاد حتى قيام الحكم الوطني. اما عمه الثالث محمد جعفر فقد عرفه ذلك الاستعمار ندا مؤثرا ببغداد فقاموا باعتقاله عام 1919 ونفيه مع عدد اخر من الوطنيين الى جزيرة هنجام.

تشبع الشهيد اسعد بحب الوطن من تراث اسرته كما نهل من ثقافة واشعار جده محمد جواد الشبيبي وابيه محمد رضا وعمه محمد باقر فتكون لديه وبشكل مبكر نزوع ادبي وشعري ممزوج بلغة تتحدى المظالم الحكومية والتباينات الطبقية الفاحشة التي برزت في ظل استمرار نفوذ السلطة الاستعمارية البريطانية على مقدرات بلاد ثورة العشرين الوطنية التحررية. وكانت اشعاره تكشف باقتدار الثنائية المؤلمة للفقر والجوع مع التخمة المقترنة بالغنى الفاحش في بلاد الرافدين. وكان الشهيد الغالي يوضح لمتابعيه مرامي النفوذ الاجنبي اذ كان متحديا لهيمنته على مؤسسات الدولة العراقية التي كانت بأطوار النمو الأبتدائي وهو ما يزال آنذاك في مراحل واطوار الصبا والتفتح على الفكرين السياسيين العالمي والوطني.

في العام 1950، ونتيجة لتفوقه الدراسي، أرسل الشهيد الغالي ببعثة حكومية للدراسة ببريطانيا حيث درس بأحد المعاهد التقنية في مدينة لفبرة بمقاطعة ورسيشتر وتخرج منها مهندسا كهربائيا بتفوق في سنة 1955. وأثناء دراسته هناك ، اسهم هذا العراقي بلم شمل طلبتنا في بريطانيا عبر المشاركة بتأسيس جمعية الطلبة العراقيين والتي صاغت شعارها الرائد لأعضائها (من اجل التفوق العلمي والعودة الى الوطن) الامر الذي ساعد في تربية قيم خدمة العراق وأسهم بعدم تشتت الكفاءات العراقية الواعدة في منافي الغربة آنذاك، وهو عكس ما آلت اليه الامور في الوقت الحاضر من شتات غير مسبوق موْسف ومكلف كلفا باهظة لتنمية وتطوير البلاد وارتقائها نتيجة هجرة الكفاءات من جهة وانعدام الرغبة المحلية لاستقطاب الكفاءات من خارج البلاد بل دفعها للبقاء هناك وذلك من الجهة الأخرى. وكان من الرواد في تأسيس تلك الجمعية الكثير من القامات الوطنية العراقية التي لمعت اسهاماتها الثقافية والعلمية بعد اكمال الدراسة الاكاديمية ومنها مثلا زميله المرحوم الدكتور محمد سلمان حسن الاقتصادي العراقي اللامع الذي اضطهد هو الاخر من قبل النظام البعثي في 1963 ومرات عديدة اخرى في أواخر الستينيات وحقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بعد ان أسهم، وبشكل موْثر، بتشكيل تيار فكري سياسي ديمقراطي وطني ومهني اقتصادي عارض العسف والجور الحكوميين سمي بتيار “الديمقراطيين المستقلين”.

عمل اسعد الشبيبي في العديد من المؤسسات العراقية اذ كان مهندسا في الموانيء ومن ثم في محطتي كهرباء الهارثة بالبصرة والدورة ببغداد قبل فصله من الخدمة الحكومية عام 1963 لأسباب سياسية بعد ان اختفى لفترة معينة بأحد دور اقربائه لحوالي الشهر او ما ينيف اعقبها فيما بعد اعتقاله من قبل نظام الحرس القومي (اي البعث الأول) بعد صدور اسمه بإحدى لوائحهم غير المستندة الى أي قانون وضعي أنما الى شريعة الغاب التي ادرجت بموجبها اسماء حوالي 800 وطني عراقي في لوائح الإعدام بناء على ايعازات ومعلومات اجنبية. وكان هؤلاء مستهدفين بالإعدام العشوائي من قبل انقلاب الاجرام البعثي الاول بأيامه الأولى والذي أطاح بشكل دموي سافر بالحكومة الوطنية لرئيس الوزراء عبد الكريم قاسم والتي انجزت الكثير من الصناعات ومشاريع التعليم والاسكان لصالح الفئات الفقيرة من الشعب العراقي.

بعد الافراج عنه اضطر الشهيد اسعد لمغادرة العراق مع اسرته الى بريطانيا حيث عمل مهندسا بأحد المصانع البريطانية في مدينة مانشستر ولحوالي عام واحد ليقرر بعدها العودة الى الوطن بعد ان ضايقته بعض الأوساط هناك فآثر هذا العراقي الأبي تلك العودة ابان حكومة عارف (وبالرغم من فصله من العمل الحكومي) متحديا مذلة الرضوخ للضغوط الاجنبية ومهادنتها..

بقي شهيدنا الغالي في العراق يعمل في القطاع الخاص ضمن شركة الساحبات والجرارات الرومانية حتى انتهت مدة فصله من العمل الحكومي فعاد للعمل في وزارة الصناعة والمعادن عام 1968 ليستلم بعض المهام الكبرى هناك للإشراف الهندسي والتنفيذي على مشروع كبريت المشراق في الموصل والذي انجزته – تحت اشرافه – شركة بولونية اعقبه العمل لتنفيذ المشروع الضخم قرب الحدود السورية لإنتاج الفوسفات في عكاشات لينجزه هو الآخر بكل كفاءة واقتدار ضمن وزارة النفط والمعادن بعد دمج فرع المعادن الذي كان تابعا لوزارة الصناعة بوزارة النفط. وبعد انجازه الكفؤ لمشروع الفوسفات اوكلت اليه مؤسسة المشاريع النفطية في أواخر السبعينيات مهمة كبرى اخرى وهي الاشراف الهندسي والتنفيذي على انجاز مشروع غاز الجنوب المسال. وشاءت ظروف العراق ان تندلع الحرب العراقية الإيرانية عام 1980 نتيجة غزو صدام لإيران فرد الإيرانيون باستهداف المنشآت النفطية العراقية الأقرب إليهم ومنها خزانات مشروع غاز الجنوب المسال الذي أشرف عليه كبير المهندسين اسعد الشبيبي. وعند سماع شهيدنا الغالي لنبأ استهداف المشروع والدمار الذي اصاب منشآته التي أنفق عصارة أيامه ولياليه في تشييده خدمة للشعب العراقي، توجه برفقة سائق وسيارة رسميين الى البصرة لتفقد تلك المنشآت وعلى ما يذكر فان الشهيد الغالي ابدى تذمره علانية من تبعات هذه الحرب الاجرامية على البلاد ومنشآتها الانتاجية فقام جلاوزة البعث وصدام باختطافه من الشارع في بواكير 26 تشرين الثاني 1980 وهو متوجه لشراء الخبز لأسرته الكبيرة. كان ذلك اليوم المؤلم لآل الشبيبي واصهارهم هو نفس تاريخ رحيل والد الشهيد الزعيم الوطني محمد رضا الشبيبي ولكن في العام 1965 والذي شيعه حوالي ربع مليون عراقي في شوارع بغداد اكراما لدوره المميز بتأسيس الدولة العراقية الحديثة وادارة مؤسسات التعليم والتشريع فيها على أسس دستورية وحضارية. فهل كان استهداف ابي جنان بالخطف في نفس التاريخ ذاك بعد 15 عاما على رحيل والده من قبيل الصدف ام كان امرا مقصودا ورسالة أخرى من الدكتاتورية الفاشية الى الشعب العراقي على ان الوطن صار مستباحا بشكل أكبر لجلاوزتهم بعد رحيل الشبيبي الاب واختطاف أكبر أبناءه واكثرهم حيوية في النشاط المهني والسياسي والثقافي؟

باعتقادنا ان توقيت تاريخ اختطاف الشهيد اسعد الشبيبي كان متعمدا ورسالة واضحة لمن كانوا سيجرؤون مثل اسعد الشبيبي على تحدي الدكتاتورية بان العراق وأبرز مثقفيه صاروا مرتهنين لأمزجة الحاكم بأمره صدام وزبانيته. باعتقادنا أيضا ان الرسالة الحكومية المتضمنة جاهرت بهذا العمل الاجرامي لتقول لنا بأن الوطنية والأمانة والشرف والإخلاص المتفاني في العمل لم تعد كلها كافية لحماية الانسان من الاذلال والعسف فالمطلوب هو الخنوع للأسرة الحاكمة ولأمزجة قادتها حتى ولو أدى ذلك الخنوع لدمار اقتصاد العراق وشعبه الابي.

الرسالة الأخرى التي وجهها جلاوزة صدام بتغييب الشهيد اسعد منذ 26 تشرين الثاني 1980 هي في التعتيم السادي المتعمد في اخبار ذويه عن مصيره لسبع سنوات رغم ان الوثيقة الرسمية التي ظهرت هذه الأيام تزعم بأنه كان قد أعدم في 28 ايار 1983. هذه الرسالة قالت لنا آنذاك بان الانسان صار رهينة للحاكم الفرد وجلاوزته ولا حصانة لأحد حتى لأكثر الناس مكانة واحتراما ضمن المجتمع العراقي. ورغم ان بعض الشباب الذي لم يعش تلك الأيام الحالكة صار اليوم يرنو الى الماضي المرير بسبب تدهور الأحوال في البلاد، الا ان من عاش تلك المحن لا بد وان يتذكر مآثر من غيبوا من العراقيين الابرار حالهم حال الشهيد الغالي اسعد الشبيبي واقرانه. انني اتذكر اليوم أيضا المآثر والانجازات المهنية الجميلة التي قدمها لنا ولتاريخ العراق المعاصر الإعلامي المغيب البارز توفيق التميمي في برنامجه التوثيقي “هذا ابي” والذي نفتقد اصالته وذكرياته عن قادة البلد ممن رحلوا.

وفي هذه الأيام وبعد 37 عام من اغتياله رسميا نستذكر طيبة وخلق وتواضع كبير المهندسين أسعد محمد رضا الشبيبي كما نستذكر اسهاماته الكبيرة في العمل المتفاني ليل نهار لرقي وتقدم الشعب العراقي الصابر.

عليك الرحمة والغفران يا اسعد الشبيبي شهيدا بارا اخر من شهداء هذا الوطن الغالي..

عرض مقالات: