طريق الشعب
لم يحظ حدث في العراق بإجماع شعبي ومساندة من مختلف الأطياف والمكونات، مثلما حصل لانتفاضة تشرين المتواصلة منذ مطلع تشرين الأول الماضي. فقد نجحت هذه الانتفاضة في تخطي توقعات وتحليلات كثيرة لباحثين ومراقبين، أو مسؤولين حكوميين، في ما يتعلق بقدرتها على الاستمرار، أو إمكانية تحقيقها تغييرات في المعادلة السياسية العامة في البلاد، عدا الاجتهاد بوصفها تظاهرات مطلبية تتعلق بالخدمات، أو مرحلية. إذ وصفها البعض بأنها "فورة"، من دون أن يفوّت آخرون ربطها بقوى سياسية في محاولة فاشلة لنزع شعبيتها وعفويتها عنها.
هذه الثورة العراقية، كما يحلو لمتظاهري كربلاء والناصرية والبصرة تسميتها، أو انتفاضة تشرين كما أطلق عليها محتجو المثنى وميسان والنجف، أو "ثورة الوعي"، كما يُسميها اليوم المعتصمون في ساحة التحرير، يسرد ناشطون ومراقبون عراقيون سلسلةً طويلة من النتائج التي حصدتها، بالتزامن مع دخولها شهرها السادس.
وتتوزع هذه النتائج في سياقات عدّة، سياسية واجتماعية، على الرغم من الغصّة التي يحملها سكان ميادين التظاهر بسبب فقدانهم زملاء لهم جراء القمع والاغتيال.
الشيخ محمد عباس التميمي، أحد زعماء القبائل البارزة في البصرة، يقول في حديث صحفي أن "التظاهرات أثبتت أن الشعب حيّ، إذ إنها لا تزال متواصلة على الرغم من حملات القمع والتنكيل، ومحاولات جرّها إلى العنف واللاسلمية، وهو ما لم ينجر إليه الشباب المتظاهر رغم توفر السلاح بكثرة في الشارع العراقي".
ويضيف قائلا: "كسبنا الكثير بفضل التظاهرات. ولولا سقوط الشهداء والمصابين، لكان أمكن القول إنها عرس عراقي شعبي".
وفي بغداد، يرى الناشط علي غالب، أن انتفاضة تشرين أفرزت مشهداً جديداً داخل المجتمع والعملية السياسية، مبيناً في حديث صحفي، أن الانتفاضة "أعادت ثقة الشعب بنفسه وبقدرته على التغيير، بعدما ظلّ الشارع مُسّيراً منذ الاحتلال الأميركي. فالشارع العراقي اليوم فاعل، أو طرف جديد في المعادلة السياسية، والدليل ارتباك القوى السياسية وهلعها من الانتخابات المقبلة".
أما مستقبلاً، فيعتبر غالب أن "نجاح الشعب في إدارة التظاهرات الحالية، يعني بالضرورة نجاحه في إدارة تظاهرات أخرى أكبر".
وفي ما يتعلق بعمر التظاهرات، يرى الناشط في مدينة الناصرية عباس جمعة الوائلي، أن هناك رغبة لدى جزء كبير من المتظاهرين في استمرار التظاهر، حتى لو جرى تنفيذ كل مطالبهم، ذلك لأن الحراك "جرف الكثير من رواسب الاحتلال الأمريكي".
ويلفت الوائلي إلى ان "العراق قبل التظاهرات ليس كما بعده"، مؤكدا أنه لم يتوقع يوماً اهتمام الشارع العربي بأحداث بلده، خصوصاً ما يجري في المحافظات الجنوبية "فتفاعل المواطنين العرب وتعاطفهم مع ضحايانا وتشجعيهم لنا عبر مواقع التواصل، أثبت قربنا من بعضنا بعضا، بعكس الصورة التي تكونت لدى أغلبنا عبر الإعلام الطائفي".
ويسرد ناشطون ومراقبون عراقيون لائحةً طويلة من العوائد الإيجابية للتظاهرات منذ انطلاقها، لعل أبرزها ارتفاع أسهم الهوية الوطنية وتراجع ما يطلق عليه العراقيون وصف "دكاكين الطوائف"، والخطاب القائم على التخندق المذهبي والمناطقي، والذي عادة ما يكون مشحوناً بعبارات الكراهية والعنصرية والتمييز.
ومن أهم الإنجازات أيضاً - بحسب ناشطين ومراقبين - إسقاط ما يمكن اعتباره رمزية زعامات سياسية، فضلا عن استعادة الصورة الحقيقية للمجتمع الجنوبي، والتي كانت قد شوهتها وسائل إعلام أجنبية وعربية من حيث الزعم أن أبناء هذا المجتمع موالون لدول إقليمية وموافقون على نفوذها، حتى أثبتت التظاهرات هناك، عبر شعارات رفعتها وهتافات أطلقتها، ولاء أبناء الجنوب للعراق فقط.
وما يميز انتفاضة تشرين، أنها انطلقت بعفوية، وأبطالها مجموعة شبان أطلقوا دعوات على موقع التواصل الاجتماعي، ليجدوا أن من كان ينتظرهم في المنطقة المحصورة بين ساحتي الطيران والتحرير، أكثر بأضعاف مما توقعوا، مستجيبين لنداء الوطن.
هذه المعطيات تجعل الشارع العراقي اليوم في موقف المسيطر أو اللاعب الفاعل. فحتى وإن طويت صفحة الحراك، بات سهلاً خروج العراقيين في أي وقت، حيث يعود لهم وحدهم تحديد المكان والزمان، فيما تقف الأحزاب والقوى السياسية المتنفذة، في موقع الدفاع أو تبرير الأخطاء!