طريق الشعب

انتزعت العراقيات خلال أحداث الانتفاضة ومنذ يومها الأول الساحات الاحتجاجية. لم تردعهن دعوات الفصل بين النساء والرجال في التظاهرات، وقد ملأن الشوارع وهتفن بأعلى الصوت "إنتي الثورة وهُمّه العورة!"، "بناتَك يا وطن. بنات الثورة والحريّة"، فهذه هي الصورة التي نقلتها بنات الوطن من مسيراتهنّ النسويّة التي جابت مدن العراق. ولم تقتصر مسيراتهنّ على بغداد، بل طالت محافظاتٍ أخرى في وسط العراق وجنوبه، كبابل وميسان وذي قار والنجف والبصرة وغيرها.

مسيرات نسوية مميزة

لم تردع النسوة المنتفضات من الترهيب، وقد بقين في ساحات التظاهر لأجل مستقبلهنّ ولمساندة إخوانهنّ. والأهم أنّها ليست المرّة الأولى التي يتحرّكن فيها أو يحتللن الساحات العامة لإعلاء أصواتهنّ ومطالبهنّ، ولن تكون الأخيرة. فنساء العراق يناضلن لانتزاع حقوقهنّ في العدالة والمساواة منذ عقود، وافترشن الشوارع ليلاً ونهاراً في تحدٍّ واضح لكل الأقاويل المسيئة والمخاطر المحتملة على سلامتهنّ، وكنّ في طليعة الاحتجاجات الأخيرة وفي صميمها منذ اندلاعها في تشرين الأوّل 2019.

وشاركت النساء من مناطق وتيّارات فكريّة مختلفة بمسيرات حاشدة في شوارع العراق. استجابة لدعوة نسوية صدرت خلال الأيام الماضية التي طالبت بتخليد ذكرى مئات الشهداء الذين سقطوا نتيجة قمع الانتفاضة، وتجديد الوفاء للراحلات سارة طالب، وهدى خضير، وجنان الشحماني، وزهراء القره لوسي وغيرهنّ من اللواتي اغتالتهنّ عناصر مسلّحة وخطفتهنّ واعتقلتهنّ ووجّهت تهماً بائسة ورخيصة وذكوريّة ضدهنّ.

وقد أشارت مُناشَدات العراقيّين على مواقع التواصل الاجتماعي منذ أيّام إلى اختفاء الناشطة أسماء سمير، لتكون اسماً جديدا يُخشى أن يُضاف إلى لائحة "المخفيّين قسراً" على يد قوى القمع الشرس، والتي سبق أن نجت منها ناشطات ومسعفات عراقيّات كثيرات، من بينهنّ صبا المهدي وماري محمد.

المنتفضات غيرن المفاهيم

ويتّضح في المسيرات النسويّة، كيف استطاعت فتيات عراقيّات تحويل مبدأ الحماية الأبويّة إلى حماية تشاركيّة ومتبادلة بين النساء والرجال. منهنّ من قلن إنهنّ يساندن إخوانهنّ العراقيّين في الساحة منذ الأيام الأولى للانتفاضة، وأنّ إخوانهنّ اليوم يردّون الجميل. ومنهنّ من شكرن الرجال على الحاجز البشري الذي شكّلوه لحماية النساء المتظاهرات من أي اعتداء مُحتمل. وقد يكون حاجز كهذا مطلوباً في أوضاع حرجة ودقيقة كالأوضاع التي يشهدها العراق، وفي ظلّ عقليّة مأزومة غير متقبّلة لوجود النساء في الشارع، وقد جاء أجمل ردّ عليها على لافتة حملتها متظاهرة كُتب عليها، "فصلُ الدين عن الدولة أفضل بكثير من فصل الذكور عن الإناث!".

ما قامت به النساء، بحسب الباحثة المتخصّصة في الشؤون العراقيّة في منظمة العفو الدوليّة، راز صالحي، "شكّل تحدّياً واضحاً لرغبة السلطات والجهات المسلّحة والمتطرفين في إبقاء الوضع على ما هو عليه".

جزء احتجاجي أساسي

وتوضح صالحي في تقرير اطلعت عليه "طريق الشعب"، إن "مشاركة النساء الحاشدة في المسيرات النسويّة كأنّها أرادت بتوقيتها القول إنّ دعوات الفصل بين النساء والرجال في التظاهرات التي جاءت مؤخرا في العراق لا يجب أن تكون مصدر قلق للسلطات في العراق"، مبينة أن "النساء اليوم لا يشاركن في التظاهرات، بل شكّلن جزءاً أساسيّاً منها ومنذ اليوم الأوّل". 

وتضيف الباحثة، إن "النساء سعين عبر مسيراتهنّ وهتافاتهنّ إلى تقوية الموقف المناهض للحملات الذكوريّة الموجّهة ضد القياديّات في الساحات ولأصحابها الكارهين للنساء في العراق، لكنهنّ ركّزن في يومهنّ على مطالب العراقيّين المعيشيّة والاقتصاديّة، وعبّرن عن رفض الشعب العراقي لعودة الطاقم السياسي نفسه وتعيين وزير الاتّصالات السابق، محمد توفيق علّاوي، رئيساً للحكومة، ونقلن حلم الشعب ببناء دولة غير قائمة على المحاصصة الطائفيّة وسياسات الفساد، وبتعزيز حق النساء في تشريعات عادلة ترتقي إلى مستوى تضحياتهنّ وتضع حدّاً للعنف الموجّه ضدهنّ".

وتؤكد أن "النساء لم يعلنن أجندة جديدة ولم يسعين إلى الترويج لطروحات خارجة عن المألوف. فقد وضعن إمكاناتهنّ وأذهانهنّ وحناجرهنّ في خدمة رسالة واحدة هي وجوب أن تعطي أية سلطة سياسيّة جديدة الأولويّة لظروف العراقيّين المعيشيّة وحقوقهم الأساسيّة. وأن ما قامت به النساء اليوم، شكّل تحدّياً واضحاً لرغبة السلطات وحلفائها في إبقاء الوضع على ما هو عليه".