ما ان تصل الى ساحة النصر بغية التوجه الى سوح الاحتجاج، يصادفك فتيان عربات التكتك عارضين خدماتهم عليك، ونقلك الى الجهة التي تروم الوصول اليها، ساحة التحرير، ساحة الطيران، السنك ،او ساحة الخلاني.

احيانا كثيرة تعبر عن شكرك وتبدي رغبتك بقطع المسافة القصيرة مشياً الى ساحة التحرير، كي تمتع ناظريك بمشاهدة الخيام التي تمتد على طول الشارع المفضي الى هناك، والتي يتواجد فيها شباب وشابات، وكل خيمة تحمل اسم المنظمة او الاتحاد او الجمعية او العشيرة او منظمات المجتمع المدني الاخرى المشاركة في الاعتصام، بعض الخيم تختص بإعداد وجبات الطعام، وهناك خيم تعرض كتبا ومجلات وجرائد تغطي اخبار الانتفاضة وتوزع على المعتصمين والوافدين مجاناً وخيم أخرى لها أسماء أخرى عديدة.  مشهد الشارع مبهر حيث يتوافد الناس الى ساحة التظاهر افراداً وجماعات من الشباب والنساء والرجال صغاراً وكباراً وهم بأعداد غفيرة، وانت تحث الخطى صوب الساحة مستغرقاً محاوراً نفسك، والسرور يغمر قلبك لما تلمسه من اندفاع الناس وحماسهم بأعدادهم الكبيرة متوجهين الى مشاركة اخوانهم المنتفضين فعالياتهم ونشاطاتهم في ساحة التحرير. هؤلاء الشباب بأعدادهم واعمارهم الربيعية والروح الوطنية التي يطفحون بها، لم نلاحظها من قبل بهذا الحجم، فهي نتاج الوعي المجتمعي الذي بدأ منذ انطلاق الحراك الجماهيري عام 2011وتراكمه على مدى تلك السنوات.

انطلقت اليوم الجماهير الشعبية بنضالها وعبر الوسائل السلمية المختلفة لتغير المنظومة السياسية الفاسدة، ولأجل تأسيس نظام سياسي جديد يقوم على أساس المواطنة والديمقراطية والحياة المدنية والعدالة الاجتماعية.

أوشكت الوصول الى الساحة، حينها شاهدت سيدة في الستين من العمر سحنتها سمراء ترتدي عباءة وفوطة سوداء نافرة منها بعض شعيرات بيض، وهي تقوم بإعداد الشاي للمتظاهرين منذ الصباح الباكر حتى ساعة غروب الشمس مصحوبة بعبارة (اتفضل اُمي).  وفي حواري معها بدت لي انها امرأة خبرت الحياة وحنكتها، فسلوكها وطريقة تعاملها مع الاخرين توحي بذلك، وعرفت انها تسكن احدى العشوائيات في أطراف مدينة بغداد، فقدت ولدها في احدى المعارك ضد داعش بعد التحاقه بالحشد الشعبي وهي ام لثلاث بنات متزوجات، وزوجها يتقاضى راتباً تقاعدياً عن خدمة تمتد لأكثر من 25سنة وبالكاد يسد رمقهم اليومي. التحقت (ام حسن) بساحة التحرير منذ بدء الانتفاضة وهي تقدم خدمتها لأبنائها المتظاهرين، تشد من أزرهم وتلهب حماسهم، تهتف معهم وتردد اهازيجهم وشعاراتهم وتحبذ ان تكون جزءا من الانتفاضة وتاريخها المشرف والثأر لابنها الشهيد وتقول " السلطات التي تقتل ابناء شعبها لا تختلف عن عصابات داعش، وما ارتكبته من جرائم بحق العراقيين".

رغم اُميتها فهي امرأة واعية لما تريد وتطمح، اذ تقول " طموحي ان يكون العراق ذا سيادة يملك قراره ويؤمن الكرامة والاستقرار والامان لأبنائه ويوفر العيش الكريم لشبابه، ويحقق العدل للجميع، لا يميز بين مواطن وآخر، ولا مكان فيه للتابعين والفاسدين".

وتستدرك بلهجتها الشعبية " لا املك بيت مثل الاوادم، نغرق في المطر ونرتجف من البرد في الشتاء تحيط بيوتنا النفايات من كل جهة، وراتبنا لا يمدنا بأبسط احتياجاتنا، لهذا فانا معتصمة مع بنات جنسي وابنائي، اريد حقي". وعن موضوع حزنها فتقول" أحزن عندما يسقط امامي عشرات الشهداء وقد روت دماؤهم الزكية هذه الارض ومئات الجرحى والمصابين التي تقلهم عربات التكتك الى خيم المسعفين وهم شباب في ربيع العمر وشجعان لا يهابون الموت، انظر الى صور الشهداء المعلقة، التي تحتفي بهم جدران الخيم والنفق، ستخلدهم ذاكرة الوطن والعراقيين ".

مطالب ام حسن بعد مضي أكثر من أربعة أشهر على بدء الانتفاضة " حكومة انتقالية يقودها رئيس وزراء مستقل كفوء ونزيه ومقبول شعبياً ولديها صلاحيات استثنائية تهيئ البلاد لانتخابات مبكرة يحدد وقتها واستكمال قانون الانتخابات الاخير، وتشكيل مفوضيه عليا للانتخابات مستقلة، ومحاسبة الفاسدين والكشف عن قتلة الشهداء ومقاضاتهم" بحسب قولها. واعربت ام حسن عن تفاؤلها بنتائج الثورة قبيل مغادرتي، فقالت " متفائلة جدا بالنصر للانتفاضة، فهي في تصاعد وقاعدتها الجماهيرية في اتساع والضغط الجماهيري متواصل مما يجبر الحكومة على تنفيذ مطالبها، فالثورة تمتلك مقومات النصر ومنها صلابة وصمود الشباب وشجاعتهم المتناهية وما قدموه من تضحيات كبيرة، أكثر من 600شهيد، وقضيتهم عادلة تدعمها المرجعية الدينية وتحظى بدعم عالمي لمنظمات دولية مدافعة عن حقوق الانسان ".

ودعت ام حسن ممتناً منها، فهي مثال للمرأة المكافحة المناضلة الواعية، المرابطة في ساحة الشرف منذ بدء الانتفاضة، ربما هي واحدة من مئات النساء العراقيات الباسلات المتواجدات في ساحة العز والكرامة كمسعفات وفنانات وطاهيات نجدهن في الخطوط الاولى للمواجهة وقد تعرضن الى الاعتقال والاختطاف والاستشهاد.

عرض مقالات: