طريق الشعب
منذ نحو شهرين يتجمع الالاف العراقيين في ساحة التحرير التي يرتفع وسطها نصب "الحرية" للنحات العراقي الشهير جواد سليم في ستينات القرن الماضي، وحول هذا النصب يعيش الالاف حلم الحرية، ويدافعون عنه عند الجسر المطل عليه حيث تنتشر قوات الامن.

في مطلع تشرين الاول (اكتوبر) خرج الاف الشباب العراقيين ضد الحكومة بسبب الفساد وسوء الإدارة، وكان من المفترض ان تكون تظاهرات اعتيادية شهدتها الساحة خلال السنوات الماضية، ولكن هذه المرة ذهبت الى حد بعيد، وقت مختلف وجيل مختلف، جيل يافع تربى في عصر الفيسبوك، ولعبة البوبجي، جيل ثوري متعجل للتغيير، بينما تبدو السلطة عجوزة وكسولة غير قادرة على مواكبة الاستجابة الضرورية.
شعور غريب ينتاب المرء عند الدخول الى الساحة الممتدة على طول شارعين متراصفين، فوضى هادئة، على جوانب الساحة عند الارصفة تنتشر صناديق مكومة من المياه والمشروبات الغازية والفواكه المتنوعة، هناك نساء يطبخن بقدور كبيرة، واخرون يصنعون الخبز بكيمات كبيرة، كل هذا الطعام يعطى بالمجان الى المتظاهرين، وايضا الى الزائرين.
مصدر هذه الاطعمة متبرعون مجهولون كما تقول احدى النساء المشرفة على اعداد الطعام، تجار واشخاص عاديون رغم عدم قدرتهم على التظاهر بسبب اعمالهم ومشاغلهم، لكنهم يريدون التواجد هناك بشدة عبر دعم المتظاهرين الذين أصبحوا طريقا للخلاص من الوضع القائم، تأتي عجلات كبيرة صباحا ومساء محملة بهذه الاطعمة.
وبين هذه الصناديق وقدور الطبخ، تنتشر افرشة واغطية معدة لنوم المتظاهرين، المئات منهم يرفض مغادرة الساحة، يقول ماهر جاسم الذي لم يتجاوز عمره الـ (19) عاماً لموقع "نقاش" حول وجوده في الساحة "انا هنا منذ ايام، انها ارضنا الان، اذا انسحبنا قد نخسرها الى الابد، منها نحقق حلمنا في تغيير وضعنا السيئ".
تشعر ان الاف الناس متحدون معا، رغم اختلاف ما تقوم به كل مجموعة وشخص، هنا تسمع الاغاني الوطنية وبالجوار مجموعة تستمتع الى اناشيد دينية، رجل يقرأ القران بصوت عال، واخر جالسا على الرصيف معلقا الصليب وهو يقرأ الانجيل، مجموعة اخرى ترقص على وقع اغاني غربية وشعبية عن الحب والرومانسية.
تخلو الساحة تماما من السيارات، ولا يوجد سوى ايقونة التظاهرات الـ"تك تك" تلك العجلة الصغيرة الهندية التي وجدت نفسها في بغداد يستخدمها الفقراء لنقل الاشخاص بثمن ارخص بكثير من اصحاب التكسي، تطوع المئات من هؤلاء الفقراء الذين لم تتجاوز اعمارهم الـ (18) عاما لنقل الجرحى الى المستشفيات التحرير او الى مستشفيات المدينة القريبة من الساحة.
تحولت الجدران المحيطة بالمكان الى لوحات فنية كبيرة، عشرات الشباب رسموا عما يحلمون به من الحرية والحياة الجيدة، ابرز اللافتات تلك التي تشير الى قوة المرأة ودورها في الحياة الى جانب الرجل، وعلى الارض تحت هذه الرسوم انتشرت مكتبات صغيرة تحوي مئات الكتب، ليست للبيع، وانما مجانا، لمن يريد يأخذها لنفسه او يعيدها لاحقا بعد الانتهاء من القراءة.
لا يريد الناس مبارحة المكان مطلقا، لم تعد فقط مكانا للاحتجاج على السلطة لتلبية مطالب معينة، بل ارض للإحساس بالحرية، بعيدا عن القيود والقوانين، اطلق المتظاهرون مقولة تحولت الى مثل شعبي يتم تداوله عبر الالاف الهاشتاغات "الما يزور التحرير عمره خسارة".
ما يجري في الساحة من احداث وظواهر ومشاهد كثيرة، دفعت بعض المتظاهرين الى اصدار صحيفة خاصة بهم حملت اسم "تك تك"، ورغم انها من أربع صفحات فقط، لكنها تضمنت مقالات رصينة، ومطالب الى السلطة.
وعلى يمين الجسر مبنى عال مهجور مكون من عشرة طوابق يسمى "المطعم التركي"، تحول الى رمز للمتظاهرين، يقيم فيه مئات المحتجين، ويرفضون تركه، وقد غطت جدرانه لافتات ضخمة من العلم الوطني وشعارات احتجاج قوية ضد السلطة.