وسط جمع من الاقارب والاصدقاء والمعارف العراقيين والعرب والالمان وفي مقبرة تحيطها أشجار السدر والسنديان الباسقة في العاصمة الألمانية برلين ، انتقل جثمان الفنان العراقي المصور السينمائي كامل ماجد يوم الجمعة الموافق 30 آب ـ اغسطس 2019 في تمام الساعة الحادية عشر صباحاً الى مثواه الاخير.
وعلى الرغم من تعدد العناصر القيمية والمعنوية التي تجمع بين الفضاء الافتراضي للحدث ومفهوم الزمان والمكان الذي جعل الفقيد ماجد كامل يتكيّف مع ما كان ينتظره في قادم الايام. إلا ان خبر رحيله "المفاجئ" على قدر كلمة "موت" واثره البالغ ، لم يكن للجميع مفاجئة بالمعنى العام لفاجعة نهاية الحياة ، بقدر ما كان خبراً مؤلما وحزيناً بلا حدود!.. وعلى ما يبدو ان ماجد كان أسير أحاسيس واوهام دفينة لم يتمكن من اختزالها او تجنبها. يقاوم وحيدا للعيش ومواجهة النهاية بانضباط وهدوء. بفضل إرادته وعناده وهو يصارع المرض ، تمكن من إعطاء الأمل لنفسه للبقاء على قيد الحياة بأقصى قدر ممكن. لكن كم كان صعبا عليه ان يواجه تراتيل هواجس وآلام دون المقدرة لوضع حدٍ لها؟. بيد أن نجله بنيامين الذي حرص على الاهتمام بأبيه لسنوات ، صور في كلمة وداع مؤثرة ألقاها باللغة الالمانية المشهد الدرامي لحياة ماجد منذ بدء أعراض الأزمة والى ما قبل مرتبة مغادرته الحياة الى عالم آخر ومن ثم الوداع الاخير جاء فيها:
اليوم أودع أبي ماجد ، معكم جميعاً.. أنا سعيد أيضًا لأنكم ، أيها الأصدقاء الأعزاء ، ترافقوني في هذه الرحلة.
عندما أبلغني طبيب الجناح بوفاة ماجد في الصباح الباكر من يوم 27 يونيو / حزيران ، لم تصلني الأخبار دون استعداد لها. ومع ذلك ، فإن الشعور بذلك يصعب وصفه.. في الشهرين الأخيرين من حياته في المستشفى بعد كسر عظم الساق ، كان شديد المشاعر وينتابه عدم اليقين صعودا وهبوطا. ولم يكن هذا الأمر كذلك في الماضي عندما كان بكامل الحيوية.
في 1 يوليو ، بلغ ماجد من العمر 85 عامًا. ولم تكن لديه الرغبة في رؤية عيد ميلاده. في الأسابيع القليلة الماضية تموضع في مكانه وسط اضطرابات نفسية غير مبال حتى بالاستشفاء الجزئي ، خالٍ من المشاعر والذكريات وغير مهتم بأمر حاله.. في المسكن كان يلتقى أحياناً بأشخاص يقضي لحظات من حياته معهم ، وكنت التقيه في كثير من الأحيان في ذات الوقت. لقاء هنا وآخر هناك؛ أما بعد اليوم فسيكون ذلك غير ممكنا. وسيحل بالتأكيد ضيفًا على أطلال الذاكرة بين نبش الماضي واستنباط الاشياء التي تركها بعيداً.
في عام 1934 ، وُلد ماجد في بابل ، وهو ابن لأم كردية ، زينب عبد الخالق ، وأب عربي كامل حميد.
شارك ماجد مع الكثيرين من أصدقائه ومواطنيه حياة المهجر. وكانت العلاقة مع وطنهم متناقضة. من ناحية التعلق بالوطن ، ومن ناحية أخرى طبيعة الوضع في العراق ، الذي لم يشهد عمليًا أي مرحلة من الاستقرار الداخلي.
عزيزي ماجد ،
كم من القوة كنت تحتاج اليها لجعل حياتك قادرة على التنفس والتأقلم. القوة التي استطعت التكيّف من خلالها مع المسارات التي سلكناها معًا. وقت إجراءات اللجوء الذي خلاله تم نقلك في ولاية سكسونيا من مركز استقبال اللاجئين إلى آخر ، وأن تعيش معي سراً فقط. وما زلت لا أملك سريرًا لائقًا وما زال هناك من نفس الفوضى.
ونيابة عن منتدى بغداد واصدقاء الفقيد ومعارفه ، ألقى رئيس منتدى بغداد للثقافة كلمة مقتضبة جاء فيها: في الغربة بعيدا عن الوطن والأهل والاحبة، فارق الحياة عن عمر ناهز الـ 85 عاما ابن مدينة الحلة "بابل" الفنان المصور السينمائي العراقي ماجد كامل حميد بعد صراع طويل مع المرض.
إننا فى الوقت الذى نعبر فيه عن مشاعرنا بالخسارة الفادحة، ونستحضر ذكر الفقيد وهو يودعنا، نيابة، عن أصدقائه مَن ساروا معه سبيل المهجر شوطاً، تشظى في لحظة لم يمهله رؤية الوطن الذي تركه بعيداً يتألم. نتقدم بهذه المناسبة الأليمة لاسرة الفقيد ولذويه واحبته واصدقائه ببالغ التعازي والمواساة راجين لهم جميعا الصبر والسلوان.
ثم أردف: اسمحوا لي ان أقرأ رسالة شقيقه الاستاذ نامق كامل الذي كلفنا بقرائتها في هذا المقام حيث تعذر مجيئه لاسباب صحية جاء فيها:
بداية اود ان اشكر كل الذين قاموا بمتابعة موضوع رحيل اخي ماجد كامل في تموز 2019، وبشكل خاص ابنه بنيامين ماجد كامل. اما الشكر الاكبر فهو للشعب الالماني الذي احتضن ماجد بكل مستشفياته وسيارات اسعافه ورعايته، فلولا ذلك لكان ماجد قد توفى قبل اثنين وعشرين عاماً، حيثما وصل برلين عام 1997 عليلا. ومن بعد هذا التاريخ لم تفارقه المستشفيات وسيارات الاسعاف.
ماجد استنفذ كل شيء للبقاء في وطنه "العراق" شأنه شأن كثير من العراقيين حتى وصل نقطة الصفر اي نقطة المغادرة.
ماجد هو احد أغلب الضحايا العراقيين اللذين غادروا وطنهم العزيز عليهم جراء ديكتاتورية الموت والقتل والحروب الفاشية فاستقروا في مقابر المنافي او في قاع البحار. اذن ماجد لم يكن اسثناء.
ثم القى الصديق الكاتب والصحفي يحيى علوان نص الكلمة مترجمة الى اللغة الألمانية.
وفي رسالة بعث بها الفنان السينمائي العراقي قيس الزبيدي موسومة "الوداع المحزن الاخير" جاء: حينما نفقد صديقا قريبا من النفس والروح ، ماذا عسانا أن نفعل ؟ هل تكفي دموع شحيحة لوداعه ؟ لا يبقى عندنا كالعادة سوى الكلمات.! ومن باب الصدف اني ما زلت اتذكر هذه القصيدة الحزينة وأذكر منها المقطع التالي:
مِن أينَ يأتينا الأَلمْ ؟
من أَينَ يأتينا ؟
آخَى رؤانا من قِدَمْ
ورَعى قوافينا
إنّا له عَطَشٌ وفَمْ
يحيا ويَسْقينا
كل من حاول أن يلتقي ماجد ليدفعه للحديث ليس فقط عن السينما العراقية بل أيضا عن حياته الشخصية يجده مصرا ومكتفيا بالحديث عن السينما العراقية ، التي كانت تشكل حياة كامل الشخصية.. تعرض ماجد الى مأساتين في حياته. مأساة عامة ومأساة شخصية: مأساة السينما العامة، التي هي مأساة وطن عامة.
يقول ماجد: «شعرت بأن كل شيء تغير وبان الامل كبير ، لكن سرعان ما انهار كل شيء على يد صدام حسين الذي كان يقاوم كل شيء يبشر به العراق منذ عام 1971 "!.. ويتابع الزبيدي: لم يبق لماجد من ماضيه في شقته الصغيرة سوى بضع أوراق وصور وتذكارات وضعها في حقيبة جلديّة : «كنّا نريد أن نصنع سينما في العراق فصار العراق نفسه ـ حسب قول العراقيين الشائع- سينما»!!
أما الدكتور كاظم حبيب فقد عنون رسالته بـ "الموت يختطف منِّا الصديق العزيز ماجد كامل" جاء فيها: بهذا اليوم الحزين انتهت معاناة الصديق المديدة من آلام لا تطاق، لاسيما في الأشهر الأخيرة التي كان بجواره ابنه الشاب بنيامين. وفي قاعة المقبرة ألقى أبنه بنيامين كلمة جامعة عن حياة أبيه ماجد والمراحل التي مرّ بها والأمراض التي عانى منها وعن علاقته الحميمة بأبيه. وكان الحزن والألم حاضران بصوته والدموع التي احتبست في عينيه.
وبعث الفنان السينمائي فيصل الياسري برسالة بعنوان "نخيل العراق تموت واقفة في وداع السينمائي ماجد كامل" جاء فيها: في سفرتي الاخيرة الى برلين قبل سنوات تقصدتُ زيارة صديقي القديم المصور السينمائي ماجد كامل المهاجر منذ عشرين سنة ، فارشدني اليه صديقنا المشترك المفكر السينمائي قيس الزبيدي واخي الإعلامي عصام الياسري .... ضغطنا جرس الشقة التي يسكنها ماجد في جنوب برلين ففتح الباب لنا صديق عراقي مقيم في برلين منذ خمسين سنة نزارالنقاش وعلمنا منه ان ماجد يصعب عليه الوصول الى الباب ، ولكن صوت ماجد وصلنا من الغرفة المجاورة هاتفا باسمي مرحبا بعد ان عرفني من صوتي .. وعندما دخلت عنده حاول ان يقف ليعانقني .....
كانت حسرات ماجد كامل كثيرة على الماضي والحاضر فهذا المصور المحترف المولود عام 1934 في بابل كان يحن للعمل السينمائي الذي بدأه في وحدة إنتاج الأفلام التابعة لشركة نفط العراق وعمره عشرون سنة ، فتوجه الى تصوير الأفلام التسجيلية والاخبارية لصالح الجريدة الإخبارية او تلفزيون العراق مع نخبة من المخرجين العراقيين المهتمين بالافلام التسجيلية لانعدام فرص الإنتاج الروائي آنذاك.
وعندما طرح احدنا سؤالا عن مدى استعداد ماجد كامل الان للوقوف وراء الكاميرا وتصوير فيلم جديد ... فاجأنا ماجد بالنهوض بحماس من كرسيه مؤكدا ان سيفعل وانه يتمنى ان يموت واقفا في ميادين الإنتاج السينمائى لا مُقعدا على كرسي في برلين ...
ولعلي أختم بقول الصديق الفنان قيس الزبيدي: لا اريد أن أتحدث عن سنوات طويلة تفاقمت فيها امراض ماجد العديدة ولا عن معاناته الجسدية والنفسية لدرجة اصبحت الحياة فيها بالنسبة له ، وهو المحب للحياة ، بمثابة سجن انفرادي ، تضيق جدرانه الاربعة عليه الخناق وهو لا يخرج من هذا السجن الا نادرا ليعود اليه من جديد. وكان يردد لي ولأصدقائه امنيته بالقول علّ الله أن يأخذ أمانته أخيرا !
أراد ماجد أخيرا أن يرقد براحة وسلام.