عجيبة هذه الحبيبة أم  المدن  (( بغداد )) بعد ان أستبيحت  وأغتصبت  من دكتاتور ، سادي ارهابي ... نزعت عنها قديم ثيابها، وتغير فيها كل شئ ، اسماء الشوارع والساحات  والدرابين وحتى المدن ، كانت مزدحمة  بصور وجداريات المهيب  المزيف بأشكال  شتى، العسكري – الكردي- العربي – المدني -والكاوبوي -الأرهابي  وهو يحمل بندقيته !

من جديد امتلأت ساحاتها  وواجهات المحلات  وأعمدة الكهرباء  والحيطان بصور الشهداء، مدنيين  وعسكرين  وشرطة  ونساء واطفال – ورود سحقتها  ايادي الظلاميين القذرة  وفرسان المحاصصة  الطائفية .

في منطقة الكرادة وقفت أقرأ  ( لافتة )  لشهيد معلقة  على عمود الكهرباء، أقترب مني رجل  وقال لي  أقرأ الجهة الثانية، جفلت  ، كان الأسم  يحمل اللقب ذاته ، خشيت  ان اسال  عن مدى  العلاقة  بهذين الشهدين ! لربما  أنه يحرس هذا العمود وينتظر  ان يسيل  دمه ليمتزج  مع دماء  ابنائه  أو أقربائه  أو أخوانه.  لك السلام والصبر  لقد فقدت (( يا كرادة )) الكثير من الشهداء  والجرحى  و المشوهين  والمقعدين  ، فالعقول  المريضة الحاقدة  المجرمة  هي التي  أمرت  أن تدمى  الكرادة  ومدن ومناطق  الوطن الذي  فرض عليه  السواد والحزن  والدموع والآلام ،  قال الأصدقاء الذين زاروا العراق  بعد سقوط الديكتاتورية ، لا تعجب ، سوف تجد  أخلاق  وطيبة وشهامة  وصدق  كثير من الناس  أنها بقيت  من الذكريات، اللعنة  على النظام  الدموي  الذي  أستعمل  المال والأرهاب  والسجون والمعتقلات لتشويه وافساد أخلاق الناس .

وصلت  الحبيبة بغداد بعد الهجرة القسرية  قبل (42) عاماً  هارباً من ظلام الليل ، مودعاً آخر  مدينة  من العراق المقدس – البصرة - وبجواز سفر سعره قطعة أرض في الحي الراقي (( المنصور )) وهي تعود الى اخي الراحل الشيوعي  والنقابي  (( جبار الريحاني ))  أستلمها من وزارة الخارجية العراقية  حيث كان يعمل فيها ،  وقد سألني  كاتب القصة القصيرة والصحافي ( أبراهيم أحمد ) ... سمعت  بأنك  هربت بجواز  سفر يعود الى  الصحفي الأستاذ جعفر ياسين ؟  وهو أخ  الأعزاء  الشاعر د. نبيل  والكاتب الأستاذ  جبار  والأستاذ جمعة  ؟؟؟. أجبت  الأستاذ ابراهيم  أحمد بابتسامة  فقط .

((  أخبرني قبل  عام الأستاذ  جعفر ياسين  يقول  انه عندما  يمر من منطقة الحارثية  ، يقول ان  ستار الريحاني  عذب بقصر النهاية ))   قال أبن أختي  وكان يرافقني  ، لقد وصلت الى مزارك  .. ترجلنا من الحافلة – لترى  أمامك قطعة كتب عليها  ((( الحزب الشيوعي العراقي )))  يكاد القلب أن تسمع دقاته  من بعيد  ودموع الفرح والألم  والحنين   والشوق والذكريات ، كم حاولوا ..  عذبوا وذبحوا وسجنوا  لكي لا يظهر اسمك  بين الناس  ( يا فارس الأمل )

 يا شمساً تدفئ

يا بيتاً تؤي

في باب المقر قال ابن أختي ، عندما تنتهي  من الزيارة  أتصل تلفونياً  بأحد افراد العائلة ولا تذهب لمكان آخر  ..  لربما  تخطف  ويطالبون  ( بفدية ) ويرسلون  رأسك  أو تختفي  من الوجود  كما حدث لأبن  أخيك سعد  وأبن عمك أحسان .  في استعلامات  المقر، سألت  عن عزيزنا  مفيد الجزائري  الذي تربطني  به معرفة  قديمة  وهو رفيق وصديق  لأخي جبار، وقد أشتركنا  في تمثيل فيلم  في مدينة براغ  منذ سنوات طويلة وكان دوره وزير  وضابط عسكري كبير  وكنت بدور جندي  ، هذا الصحفي  الكبير  الذي مارس  الصحافة منذ  سنوات  ثورة 14 تموز  1958 ، وما رسها خارج العراق  عندما تعرض الحزب  لهجمة أرهابية  لبى نداء  الحزب وترك مباهج  ومفاتن  وحلاوة  واغراءات مدينة براغ الجميلة ،  وذهب الى كردستان  العراق ، الى جبالها الشماء ، لمشاركة  الأنصار  الأبطال  أعادة بناء الحزب  وقتال الدكتاتورية ، متحدين قساوة  وشظيف العيش وخطورة المعركة. 

قال رجل الأستعلامات ، أنه في الجريدة  ويأتي متأخراً  ،

قلت لدي موعد مع ابو سلمان ، وسألني عن اسمي  ، قال انتظره في قاعة  ( النادي الثقافي )  قرب مقر الحزب ، عرفته  منذ عشرات السنين  منذ كان طالباً  في أيام  تموز الساخنة  والمؤتمر  السادس لأتحاد الطلبة العالمي في بغداد  ( شغيلة المؤتمر )  والمعارك الكبيرة  ضد البعثين  والقوميين  ( كم من المرات  دخل في معراك  مع عصابات  ( الأتحاد الوطني )  ضارباً ومضروباً  يحمل الكدمات  في جسمه  ، في احدى المعارك  ، كانوا يبحثون عنه  فأخفاه رفاقه  في سطح دار مستلقياً على  فوق حائط السطح الخطر  (( التيغه ))  فنجا من الأعتقال  والأعتداء  ، ومضت  سنوات  طوال  وطالت  عشرات الألوف  من مناضلي الحزب  بين شهيد  وسجين  ومعتقل  وهارب ولاجئ  والهجرة الكبرى  بعد اشتداد الأرهاب  الديكتاتوري الفاشي .  رن جرس التلفون  في احدى الليالي  وقال انا ابو  سلمان  من لندن  ( الأسم معروف  عندنا ، كان صلة الوصل  مع منظمات الخارج  والحزب ، كان هذا الرجل  قبل سقوط النظام  الدكتاتوري   بسنوات ، سأل عني  وعن الأهل  وعن أخي المدرس  الراحل الشيوعي  ( مهدي الريحاني )  وقال انه كان يدرسه اللغة العربية ، وسأل  عني وعن صحتي ، وانا لا أدري   انه ( عزت  ابو التمن )  الذي أعرفه ، سالت  الرفيق الفنان بسام فرج  وكان في زيارة الى لندن  عن ابو سلمان  قال انه عزت ابو التمن   قلت لبسام  عندي صديق عزيز  أسمه عزت ابو التمن  لا ادري  هل هو نفسه  ابو سلمان ؟؟؟ ومرة ثانية  أتصل  وكانت  قوات الحلفاء  تحشد  لأحتلال العراق  قال ،  هل يمكن ان تتصل بالأهل  في بغداد لأن هناك احداثاً هامة  سوف  تجري  واذا كان  عندك استعداد  للتوجه الى كردستان  او الداخل ،  أخبرته  بأني على أهبة الأستعداد .

وكان  تسارع  الأحداث ودخول قوات الاحتلال  وسقوط الديكتاتورية  حال دون توجهي  للوطن !

أخبرت  الأستعلامات أني ساكون  في ( النادي الثقافي )  الى حين مجئ ابو سلمان  ، خرجت من المزار الشريف  وذهبت حيث  حيث تمثال الشهيد  سلام عادل ، استأذنته  في الجلوس  قرباً منه ، ما هذا  النقاء والبهاء ، هذا الأسطوري  الذي اتعب  ودوخ قادة الأنقلاب الفاشي  اثناء التحقيق والعذاب  الرهيب بأدوات  التعذيب  وعصيهم وسكاكينهم  الحاقدة  وهي تنهش هذا الجسد  الطاهر .

أعرف  انك زرت ( موسكو )  وشاهدت تلك الصروح  التي صبت من حجر الغرانيت  الشديد الصلابة وشاهدت الأبطال  والمناضلين والمناضلين  ضد الهترلين  ، انت كنت  تواجه هذه الوحوش، أكنت من ذلك الحجر  الذي لم يستطع  ان يكسره  الذين وصلوا بالقطار الأمريكي،  وكما يقول القائد  الشيوعي الفلسطيني  ( أميل حبيبي )  أنتم الشيوعيون العراقيون  جبلتم من طينة  أخرى  !  وخالد بكداش  القائد الكبير  قال ( لقد تعلمنا  من الشيوعون  العراقيون  النضال  ...

أطلب منك السماح ،  أن تجيبني  على سؤالين  بقيت لا أجد لهما حل  !

 نقلوني من مدينة الناصرية  حيث أعتقلت هناك  في انقلاب  8 شباط  وجئ بي الى قصر النهاية  وجسمي  يئن من الآلام والجروح  الندية  وعيوني متورمة ، قال لي  صاحب البدلة  وربطة العنق  يا أبن ...  وتتكرر هذه العبارة  في المعتقلات الأخرى ، سوف نجعلك مثل قائدكم ، كنت  أرتجف  من الخوف  واصوات  تهز الشعور  الأنساني  من البكاء والآلام  التي تطال  المعتقلين ، ولكني سمعت صوت  التحدي  والدفاع عن الحزب  والهتافات  بحياة الحزب ... أكان صوتك أ وصوت أبو سعيد أم الحيدري  ام ابو العيس أم  جورج تلو أم الدكتور الجلبي  أم حسن عوينه ، أم العبلي ، خيل الي اني سمعتهم جميعاً  !!

 وسؤالي الثاني  لماذا لم يستلم  الحزب السلطة  ؟؟؟ والظروف كانت مهيئاة  !! 

 قال لي أخي الكبير وهو مدرس وكادر شيوعي  وانت تعرفه  ( ان سلام عادل  يريد  أستلام السلطة )  

كان أخي  مسؤلاً عن معسكر  سعد في مدينة بعقوبة ، وأعتقلنا  أنا واخي  في نقطة  السيطرة  عام 1960 في بعقوبة  واستطعنا  أن نخفي الأوراق وهي اوراق شفافه تسمى  ( رز وماش )  التي فيها اسماء الضباط  والجنود  وضباط الصف  والمدنيين العاملين  في هذا الخط العسكري  (( وأكلنا  وشربنا  الأوراق  بمساعدة  الماء ،  بعدها  أخذونا  الى الأعتقال  .. والاسماء  بقيت في أمان   داخل معدتنا )  بقي أخي الأكبر أكثر   من سنة معتقلاً  وانا بقيت  أشهر عديدة ،

ألم  تكن أكثرية  القطعات العسكرية  ومنها  الضاربة  تحت أمرة  وقيادة  الشيوعيون ؟؟؟

أكثرية قادة حزبنا درسوا  في موسكو !! ! لماذا  لم يتعلموا  البلاشفة وقائدهم العظيم  (( لينين )) الذي أختار  الوضع الثوري  لتفجير  أعظم  حدث في التأريخ  .

لماذا يا سلام عادل  تطول آلآم الناس ،  الدم سال كثيراً  والوطن  مباح  ومنافي العالم  مملوءة  بابناء العراق  جراء الحروب والأرهاب  والسجون  والمعتقلات  والقتل

أهناك  في قيادة الحزب  من وقفوا  ضد أستلام السلطة ؟؟

 لماذا لا تعرف القاعدة الحزبية  هؤلاء ؟؟

 يبقى الألم  مخزوناً  واعتب على من ؟؟

كتب رئيس تحرير جريدة الأزفيستيا السوفيتية   عندما حدث أنقلاب شابط  الفاشي

(  العراق أرض التأريخ  - والمصير القاسي )

 أيقظني رجل الأستعلامات من الحلم وانا أحدث رجل ولا كل الرجال.

*معتقل سياسي في 8 شباط 1963