إستضافت الجمعية المندائية في ستوكهولم د. رياض البلداوي "الأخصائي بعلم النفس عضو الجمعية الطبية السويدية، وباحث نفسي إجتماعي"، بالتعاون مع إتحاد الكتاب العراقيين في السويد، والمنتدى الثقافي العراقي في ستوكهولم، في ندوة  وبحث بعنوان "أزمة الطبقة الوسطى وأثرها في ترييف المدن..العراق مثالاً" ،وذلك بتاريخ ٤/٥/٢٠١٩، وعلى مقر الجمعية في ستوكهولم، وحضرها نخبة من جمهور منظمات المجتمع المدني العراقية.

أدار الندوة والحوار د. عقيل الناصري، مرحباً بالحاضرين، ومجهود د. البلداوي.

عرض البلداوي نظرة تاريخية لنشوء وتطور الطبقة الوسطى في أوربا، حيث أشار إلى أن أول من جاء بمفهوم الطبقة الوسطى عام ١٧٧٥ هو جيمس برادشو الأيرلندي في معترك الصراع بين طبقة النبلاء "مالكي الأرض والسلطة"، وبين طبقة الفلاحين المسحوقة. وولدت الثورة الصناعية الطبقة الوسطى الحاملة للديمقراطية والتغيير، فكانت تضم البرجوازية الوطنية وأصحاب المعامل الصغيرة، المانيفاكتورا، الفئات الأرستقراطية العمالية وموظفي الدولة وذوي الدخل المحدود في الشركات.

وبين البلداوي بأن الطبقة الوسطى هي طبقة غير متجانسة وفيها الطبقات العليا والوسطى والسفلى القريبة من الطبقة الكادحة، ولكن هي طبقة مترفة نوعاً ما، وليست مسحوقة أو فقيرة ، حيث توفرت لديها نوع من الإدخار. ولم يكف المفهوم الإقتصادي للطبقة الوسطى حيث جاء مفكرون آخرون مثل فايبر وباركر وآخرون أدمجوا بها غالبية الفئة المثقفة وأصحاب الرأسمال الثقافي وبدأت ملامح جديدة تتبلور للطبقة الوسطى لتكون حاضنة لمفهوم التطور في البلد. ثم جاء ماركس ليضع مفاهيم جديدة عن هذه الطبقة.

وأضاف الباحث بأن مفهوم الطبقة الوسطى أصبح معقد جداً، وبحسب جون باركر في أحد شروط تكون هذه الطبقة ودورها المؤثر، بأن يكون هناك نظام دولة يعطي تطور السوق التنافسي الوطني أهمية متميزة، وهذا ما أكده المفكر الإقتصادي العراقي د. مظهر محمد صالح، بوضعه هذا الأساس لديمقراطية السوق كأساس لتطور الطبقة الوسطى العراقية، وهو السوق الذي يمنح التنافسية الرأسمالية الصناعية التي تستطيع أن توفر الإنتاج، وليس فقط الإعتماد على الريع الذي تعمل به الدولة.

وفي الجانب الآخر يجب أن يكون هناك نوع من الثبات السياسي أو التوجه نحو الثبات والوضوح في التطور السياسي، وكمثال الصين حيث تشكل الطبقة الوسطى من السكان عام ١٩٩٠ (١٥%) وأصبحت عام٢٠١٠ (٦٢%)، وهذا تطور هائل حيث حصلت تغيرات كبيرة على البنية الطبقية. وفي أمريكا لا زالت النسبة (٤٥%) منذ السبعينيات ولحد الآن تقريباً. وفي روسيا تشكل الطبقة الوسطى عام ٢٠١٢ حوالي (١٥%) حيث الإقتصاد إعتمد على ريع البترول والمعادن والسلاح والدولة هي المسيطرة عليها بصورة عامة.

فالطبقة الوسطى حتى تستطيع أن تنمو وتعطي نتاجها فيجب أن يكون لها إستقرار سياسي، وعملية إنتاجية جيدة ورعاية إجتماعية للدولة، فالإتحاد الأوربي يصرف (٥٠%) من ما يصرفه العالم على الرعاية الإجتماعية.

وتطرق رياض إلى بدايات تكون وتطور الطبقة الوسطى العراقية منذ تكوين الدولة العراقية عام ١٩٢١، وكيف تداخلت هذه التطورات بالأحداث التي مر بها بلدنا، ومستقبل التطور لهذه الطبقة.

فأزمة الطبقة الوسطى موجودة، وترييف المدن لا نقصد به الإنتقاص من الريف والذي يلعب دوراً   مهماً في كل بقاع العالم، وإنما قصدنا نقل ثقافة الأطراف إلى المدن، بينما الحواضر أو المدن هي منبع التطور. وهذه الأزمة التي نمر بها تشمل الشرق الأوسط أيضاً.

وأكد أن تكون وتطور الطبقة الوسطى لا يمكن عزلها عن تطور الدولة في العراق، فيما أشار الكاتب إبراهيم الحريري إلى إنه قد تكون هنالك ملامح للطبقة الوسطى في العهد العثماني، ولكنها غير مؤثرة بشكل كبير، حيث أغلبها تعلم في الإستانة أو كانوا أطباء أو مهندسين. وأن تأسيس الدولة العراقية عام ١٩٢١أدى إلى مفهوم دولة المواطنة وبدء السعي الحثيث لتكوين مفهوم جديد هو مفهوم العراق كدولة، العراق كقومية، وهذه التطورات أدت إلى مفهوم الشعب، فالعراق حسب حنه بطاطو عام ١٩٢١ هو بلد عشائري وأشراف ومجموعة الفلاحين القادمين من الأرياف والذين يديرون وسائل الإنتاج الريفية.

وطرح البلداوي ما ذكره الكاتب العراقي صلاح حسن الموسوي في كتابه "دور الطبقة الوسطى في العراق والذي نشر عام ٢٠٠٩"، بأن هناك أسباب أخرى ساهمت في تكون الطبقة الوسطى بالإضافة إلى ما ذكر سابقاً، منها السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الأولى، وأول تغيير هو نجاح الثورة البلشفية في روسيا والتي أدت إلى هزة كبيرة جداً أثرت على كل أنحاء العالم ومنها منطقتنا "الشرق الأوسط"، الذي بدوره أدى إلى بروز أفكار جديدة كانت غير سائدة في ذلك الوقت. وكذلك المباديء ١٤ التي أعلنها ولسن أمام الكونكرس الأمريكي عام ١٩١٨، ومنها إعطاء حق الشعوب التي كانت تحت الحكم العثماني، وغيرها، في حق تقرير مصيرها وحرية الملاحة ومرور البضائع وغيرها، وإعادة السلم والأمن الدوليين. وهذه أعطت الدعم في تكوين الدولة الجديدة التي ولدت في العراق.

وأشار الباحث إلى حدوث تغيرات من ١٩٢١ إلى الخمسينات أهمها بروز التعليم الذي أدير من قبل الدولة بوجود المدارس التي أصبحت مؤهلة للناس، حيث بدأت طبقة جديدة من المتعلمين الذين إستطاعوا  أن يولجوا ويديروا الدولة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وأصبحت مرتبطة تاريخياً بالعراق، فظهرت الطبقة المثقفة الأنتلجسيا، وهناك جيش عراقي  فيه الفئات الوسطى والدنيا من الضباط ينتمون إلى الطبقات الفقيرة من الشعب، حيث توفرت لهم الظروف الجديدة للوصول إلى هذه المواقع، وهذا جعلهم يفكرون بأفكار وأهداف جديدة. وكذلك تغيرات ديموغرافية المدن حيث إزداد سكان بغداد أربع مرات من ١٩٢٢-١٩٥٧، حيث تكون نوع من الشغيلة تعتمد على الإنتاجية المحلية، وتكونت البرجوازية الوطنية التي كونت سوق وطنية، وبدأت تطالب في المشاركة في السلطة. وخلال هذه الحقبة وكما يؤكد إبراهيم الحريري، بدأت تتبلور جهات أو تنظيمات سياسية وأحزاب منها أخذ الماركسية كالحزب الشيوعي الذي تأسس عام ١٩٣٤، والى لعب دوراً كبيراً في ضم الكثير ممن يقعون تحت مظلة الطبقة الوسطى وتلقفها الأفكار الماركسية الجديدة التي بلورت طريقاً معيناً  ونظمتهم. وكذلك تكونت أحزاب أخرى منها البعث والإستقلال والشعب والحزب الوطني الديمقراطي الذي ضم الكثير من البرجوازية الوطنية.

وأوضح رياض بأن الدولة في تلك الفترة إختارت أن يكون سندها الجانب الريفي  شيوخ العشائر من الإقطاع وكبار ملاكي الأراضي الذين زادوا من ظلمهم على الطبقات الفلاحية الفقيرة، وهذا أدى بالفلاح الذي يعيش الفقر المدقع إلى أن يترك ريفه الجميل ليكون جزء من شغيلة المدينة ليعيشوا في مدن الصفيح "في بغداد وبقية المدن الأخرى"،  وهذا بالتالي أدى إلى نحر الريف، في الوقت نفسه فإن المدينة إستوعبتهم وأثرت بهم ثقافة المدينة، وكان للجيل الثاني منهم الذين تعلموا وأصبحوا معلمين ومهندسين وأطباء وموظفين وغير ذلك، فإستوعبتهم الطبقة الوسطى. وبعد ثورة ١٤تموز توحدت فئات الطبقة الوسطى خلال الأربع سنوات، والتي خلالها بنيت مدينة الثورة والشعلة وغيرها لتوفير حياة قريبة إلى ظروف المدينة. وبعد إنقلاب ٨ شباط ١٩٦٣، تشققت وتبعثرت الطبقة الوسطى إلى ولاءات جديدة قومية ويسارية ومذهبية ودينية وأيديولوجيات مختلفة أدت إلى صراعات وتناحرات كبيرة برزت فيها عسكرة الدولة والمجتمع لصالح فئات معينة من الطبقة السلطوية، والذي قابله تدمير السوق الديمقراطية المبنية على أساس التنافسية، في نفس الفترة وجهت ضربة قاصمة للطبقة الوسطى وهمشت من خلال التأميمات عام ١٩٦٤، وعام ١٩٧٢، حيث حصرت الموارد الريعية للنفط لصالح عسكرة الدولة ومصادرها الأمنية، وتجيرها لصالح الدكتاتور، فالطبقة الوسطى في عهد البعث أصيبت وأجبرت على التهجير سياسياً أو قتلت في الحروب أو جعلها جزء من الحركة العسكرية، وفي النهاية بدأت الدولة تفرغ المدينة من عناصرها الرئيسية، وبدأت تستورد الأطراف للتعويض، وفي الثمانينيات أصبحت العملية ممنهجة من قبل النظام الدكتاتوري، فأتوا بالذي يعارك من الريف ومنحه السلطة والقيم، فنحرت الطبقة الوسطى وأصبح ترييف المدن ثقافياً هو السائد، وخاصة في فترة الحصار ١٩٩٠-٢٠٠٣.

وتناول د. رياض البلداوي وضع الطبقة الوسطى بعد إحتلال العراق ٢٠٠٣، فالحاكم المدني برايمر والحكام الذين أتوا بعده، لم نصل خلالها إلى دولة المواطنة، وإنما وصلنا إلى دولة المكونات وهي ليست دولة تشجع على نهوض الطبقة الوسطى، وإنما تشرذمها بإرتباطات دينية، طائفية،  قومية، عشائرية وغيرها، وهذا لا يعطي هذه الطبقة الزخم الكافي لتطوير البلد ، حيث إبتعدنا عن إعادة بلورة السوق التنافسي الديمقراطي، وإنما وصلنا إلى السوق الريعي الذي يعتمد على الناتج النفطي، والشركات هي شركات إستهلاكية وليست إنتاجية، ولذلك ليس لدينا طبقة عاملة بل بالعكس بيعت معاملنا، وأصبح توجهنا إلى الدول الأخرى للإستيراد، وهو إستمراراً للأزمة التي بدأت في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات.

وعقب د.عقيل الناصري بعد أن شكر د. البلداوي على ما طرحه، حيث أشار إلى إنه في المرحلة الملكية سلمت المفاتيح المركزية للسلطة العسكرية بما فيها ١٤ مرة إلى نوري سعيد رئيس للوزراء من ١٩٢١-١٩٥٨، حيث ٦٤% من هم رئيس وزراء من الضباط والشريفين وغيرهم. فكانت الطبقة الوسطى ترسم القرار السياسي لكن المنفذ هم الملاكين والإقطاعيين والضباط الشريفين، ولكن خلال ثورة ١٤ تموز أصبحت الطبقة الوسطى هي التي ترسم القرار وهي التي تنفذه.

ثم أجاب الباحث على مداخلات وأسئلة الحاضرات والحاضرين.

وفي الختام شكر الناصري الحضور. ثم قدم رئيس الجمعية المندائية في ستوكهولم، الأستاذ فاضل ناهي، باقتي ورود إلى د. البلداوي، و د. الناصري.

عرض مقالات: