في مسيرة الحركة الوطنية العراقية قصصا كثيرة تجسد اروع صور التضحية من اجل حياة ومستقبل أفضل، وليس بالضرورة أن يكون أبطالها أناساً منظمين او سياسيين، بل بالعكس، ربما يكونوا اناساً عاديين قادتهم الحاجة والشعور بالمسؤولية والرغبة بالتغيير نحو الولوج في دروب الكفاح الصعبة، خاصة عندما تخون الانظمة والحكام المهمة النبيلة التي اوكلت إليهم، لقيادة البلد نحو التقدم والحياة الحرة وضمان المستقبل. وقصة اليوم تدور عن أحد هؤلاء الابطال الذين قضوا في سبيل الاهداف السامية، ولعل السيد " الفا عمر كوناري" رئيس جمهورية مالي كان محقاً حينما قال: إن الشهادة في سبيل الوطن ليست مصيرا سيئاً، بل هي خلود في موت رائع!
ولد الشهيد حنّا جيجو عام ١٩٤٦ في بلدة ألقوش، وبالتحديد في (محلة سينا).
وللحديث حول رحلة هذا الشهيد كان هذا اللقاء مع النصير وابن بلدته ألقوش (سليمان ختي) ويبدأ الكلام: ولد الراحل لعائلة فقيرة، حيث عمل والده في مطحنة لطحن الحبوب كان قد استأجرها من (دير السيدة ـ ألقوش) ، وكانت العائلة تقوم بزراعة بعض المنتجات البسيطة في منطقة (بيندوايا ـ – بستان الرقي)، فيما عملت والدته في نقل الحبوب على ظهر الحمير . دخل الشهيد المدرسة وقطعها بعد فترة وجيزة نتيجة حاجة العائلة له للعمل.
بعد انقلاب ٨ شباط عام ١٩٦٣، التحق مع القائد ـ هرمز ملك جكو -ويومها، كانت قد تشكلت جبهة عسكرية بين الانصار الشيوعيين ومقاتلي هرمز ملك جكو، وعندما اغتيل (هرمز) في ٢١ تشرين الثاني ١٩٦٣، لم يغادر الشهيد حنا العمل المسلح بل انتقل الى العمل في قاعدة الشيوعيين.
ثم يكمل سليمان ختي حديثه بالقول: لم يكن الشهيد انساناً حزبيا منظماً، لكنه كان يدافع عن الوطنيين والشيوعيين بكل اخلاص، وذات الشيء يقال عن باقي افراد عائلته، إن كان الاب يوسف والابناء، اما والدته (نعمة القس يونان) فلها مواقف مشهودة، حيث كانت توفر الغذاء للأنصار رغم حالتهم المادية البسيطة، وتنقل البريد ايضا. ويوم كانت " ألقوش " مطلوبة للحكومة، حين قامت قوة مؤلفة من (٦٠٠٠) من الجحوش وفوج من الجيش وبالتحديد يوم ٢٨ تموز عام ١٩٦٩ وكانت مطوقة من كل الجهات بحثاً عن القائد الانصاري (توما توماس ـ ابو جوزيف) قامت باختراق صفوفهم ووصلت الى بيت أبو جوزيف وصاحت: (ابو جوزيف ...ابو جوزيف ....إن الجبل يحترق!) وكانت هذه كافية لإشعار توما توماس بالخطر، حيث تمكن من الافلات منهم بصحبة ( حبيب ـ حبو)، شقيق الراحل ولهذا الاخير قصص لا تنسى، فقد كان قناصاً بارعاً ولا يخطئ الهدف . وحدث ان قام الجيش والشرطة نهاية صيف ١٩٧١ بعمل استفزازي لآهالي القوش لغرض جرهم الى معركة، وفي هذه الحالات، تتوهج المشاعر بمقارعة الجيش والشرطة، فقام الراحل (ابو جوزيف) بسحب البندقية من يد (حبيب) وقال حينها: إن طلقته لا تخطئ (وما تروح بلاش)، ونحن لا نريد خوض المعركة معهم ( أي الحكومة)، وهم ينتظرون اي خطأ ليحرقوا ألقوش!
يصل الاستاذ سليمان ختى الى الفصل الاخير، فصل الفاجعة والوجع ويقول: كان ذلك في كانون الثاني او شباط عام ١٩٦٥، وكان الحزب الشيوعي العراقي يواجه ظروفا صعبة، وهجمات من القوات الحكومية، وكانت عملية بناء قواعد الانصار وترميم الجسد الحزبي بحاجة لتواصل ومتابعة دائمة، وكان الاعتماد الاكبر هو على حركة الرفاق، وهكذا ذهب الشهيد (حنا) في مهمة ايصال البريد الحزبي برفقة رفيق آخر جريا على الاقدام متخذين الطرق الجبلية ، وعند وصولهم الى منطقة (نهلة) التابعة لناحية (ديزتا) في قضاء عقرة، حيث الاجواء الشتوية الصعبة، يبدو ان اقدامهم قد غاصت في ثلج عميق، او انهم غاصوا في حفرة عميقة كانت مكسوة بالثلج، ولخشيتهم من انكشاف امرهم، فإنهم قاموا بإطلاق بعض العيارات النارية بأمل اشعار اهل القرية المجاورة لغرض انقاذهم، لكن تبددت كل تلك الآمال بعد نفاذ العتاد ودون وصول أية نجدة ، فماذا يكون بعد ذلك.......انه الموت المؤلم، الشهادة. ولم يعثر على رفاتهما الا في شهر آيار حيث تذوب الثلوج، فاستفاق اهل القرية المجاورة على جثتيهما وبجنبهما خراطيش الاطلاقات، فقاموا بدفنهم في قرية (دفريي)!
ويختم الاستاذ سليمان ختى كلامه بالقول: بهذه النهاية المأساوية والمحزنة، تنطوي صفحة هذا الانسان، الذي رحل وهو في عز الشباب (١٩ عاما) فخسرته عائلته وبلدته ووطنه، لكن لنتوقف قليلا ونسأل: لماذا جرى كل ذلك؟ ألا تتحمل الانظمة الرجعية وقوانينها المجحفة وسياساتها العنصرية المسؤولية الكاملة عن خسارة العراق لشبابه، ان كان في القتال اوفي سوح الحرب مع الاكراد او بالهجرة. من منّا كان سيفكر بالتمرد او حمل السلاح او الاختفاء والاختباء لو كان هناك قانون ينظم جوانب الحياة السياسية في البلد ويحمي المواطن من بطش الحكومة التي تدعي انها جاءت لخدمته؟
** شكرا للفنان اسامة ختلان الذي خص الشهيد بهذه اللوحة التعبيرية.
*** مجدا للشهيد حنّا جيجو ولتبقى ذكراه بيننا دوما.
*** مجدا لعائلته الكريمة وكل من قدم الغالي والنفيس من اجل قضية الوطن.
*** لن نكل ولن نمل حتى تحقيق (وطن حر وشعب سعيد) اليوم وغدا ودائما.

عرض مقالات: