للراحل علي الشاهر فرادته الخاصة، فهو يختزن في اعماقه كماً كبيرا من الثقافة الشعبية الشفاهية، وحِكَماً وامثالا من تلك التي يتداولها الناس في مجالسهم وفي حلقات تجمعاتهم في مختلف الاوقات والمناسبات، ما يعبر بجلاء عن تواصله الحميم مع محيطه الاجتماعي، مجيدا لفن الاصغاء، متحدثا عند الضرورة، وغالبا ما يكثف آراءه بوضوح، وباقل ما يمكن من الكلمات، وكثيرا ما كان يضفي على اجواء المناقشات جوا من الطرافة والمرح عبر تلخيصه للموقف بمثل شعبي مما حفظ في ذاكرته، او من خياله الشخصي. وقد عرفته شخصا في غاية التهذيب ودماثة الخلق ولطف المعشر.

هو عبدالجليل كريم حسين الجاسم، المعروف باسمه الحركي (علي الشاهر) ولد في ناحية قلعة سكر، لعائلة كادحة عام 1952، واتم تعليمه الابتدائي والثانوي في الناصرية، وانتقل الى بغداد لاكمال دراسته الجامعية، تخرج من كلية الزراعة عام 1976، و بعد اكمال الخدمة العسكرية الالزامية، تعين مهندسا زراعيا في احد المزارع الحكومية في الارياف. وقد كان قارئا جيدا، ولديه حصيلة وافرة من المعلومات العامة، ملما بالاحوال الاجتماعية والاقتصادية لريف الناصرية واهوارها، وبالثقافة والفنون الشعبية والعادات والتقاليد، وبوسائل عيش الناس وطريقة حصولهم على لقمة العيش. وربما شكل هذا الاهتمام الفطري باحوال الناس حافزا لانغماره بوقت مبكر في خضم النشاط الديمقراطي والسياسي.

شارك شابا في العمل الطلابي المهني الديمقراطي بانضمامه للاتحاد العام للطلبة ـ المنظمة الطلابية التي ينشط فيها ويقودها الشيوعيون والديمقراطيون واصدقاؤهم ـ وحصل على عضوية الحزب الشيوعي عندما كان طالبا جامعيا، واستطاع بهدوئه وتواضعه وانضباطه، وبرهافة شخصه، ان يحوز حب زملائه واحترامهم، وبسبب من علاقاته الواسعة ونشاطه المهني، برز ناشطا طلابيا في محيطه الدراسي، مما عرضه لمضايقات مسؤولي المنظمة الطلابية السلطوية، بما في ذلك محاولة طرده من السكن الطلابي (القسم الداخلي).

غادر العراق الى الكويت عام 1979، عندما شددت السلطة الحاكمة في العراق الخناق على الشيوعيين ومؤيديهم بشكل خاص، وعلى القوى والشخصيات الديمقراطية والقومية ايضا، بل وصادرت كليا حقوق أي مواطن يرفض الانتماء للبعث الحاكم. ومن الكويت سافر الى جمهورية اليمن الديمقراطية، وعمل هناك مهندسا زراعيا في محافظة ابين، ومن خلال عمله التطبيقي في الحقول والمزارع، اكتشف في عام 1980 نباتا طبيعيا غنيا بالمركبات البروتينية، ونجح في استزارعه وتحويله الى محصول حقلي للاعلاف الحيوانية، وحاز بذلك تقدير المسؤولين في وزارة الزراعة، ولذا حاولوا استثناءه من السفر الى كردستان للاستفادة من خبرته، بالتدخل لدى الحزب الشيوعي العراقي، ولكنهم أخيرا وافقوا نزولا عند رغبته الشخصية.

في خريف 1981 التحق بفصائل انصار الحزب الشيوعي العراقي في منطقة ناوزنك، بعد رحلة طويلة استغرقت مدة عام كامل من تاريخ مغادرته اليمن الديمقراطية الى دمشق أولا، ثم الى القامشلي، محطة الانتظار الأخيرة للعبور نحو الوطن مرة أخرى، حيث قضى فيها حوالي خمسة شهور، بسبب انسداد إمكانية العبور كليا، متنقلا في عدد من بيوت الرفاق في الحزب الشيوعي السوري، الذين فتحوا بيوتهم وقلوبهم للانصارالشيوعيين المتوجهين نحو الوطن في أعوام مقاومة الدكتاتورية. وكان الانتقال يتم عبر نهر دجلة من الجانبين العراقي او التركي حسبما يقتضي الوضع الأمني في لحظة العبور. وكما اظهر قدرة عالية على التحمل في طريق الانتقال من وادي كوماتة على الحدود التركية حتى ناوزنك التابعة لمحافظة السليمانية، خصوصا ان سلامة المفرزة تتطلب المرور بمسالك وعرة تنعدم فيها عيون الماء، او الاضطرار الى السير المتواصل لاكثر من عشرين ساعة قبل الوصول الى منطقة استراحة آمنة.

في ناوزنك شارك في انجاز المهمات الانصارية بجدية عالية غير آبه بالصعوبات، متلمسا بدقة للنواقص والاخطاء، حازما في نقدها، ومن ناوزنك انتقل الى بشتاشان، وشارك بشجاعة في معارك بشتاشان الأولى والثانية، ثم انتقل الى قاطع أربيل ضمن تشكيل عسكري اسمه سرية بشتاشان خريف عام 1983. وقد ساهم انصار السرية في العبور الى ارياف أربيل والعمل هناك في ظل ظروف غاية في التعقيد، حيث ربايا السلطة ومفارزها وجحوشها من جهة، ومفارز الاتحاد الوطني الكردستاني الذي دخل مع الحزب الشيوعي العراقي في احتراب لا معنى له سوى التواطئ مع السلطة الدكتاتورية من جهة، واوهاما في الهيمنة والنفوذ على ساحة الكفاح المسلح في ارياف كردستان. والمشكلة هنا تكمن في الثقافة السياسية الرثة لذلك النمط من قيادات الحركة الوطنية والقومية في بلداننا، التي ما تكاد تحوز على مستوى معين من السلطة، أي سلطة كانت!؟.. حتى يستيقظ الوحش الجلاد الكامن في لاوعي الضحية او في وعيها على السواء، وعند ذلك ينقلب من "المناضل الثائر" الى دكتاتور مسخ.

في عام 1985 انتقل علي الشاهر الى قاطع بهدنان للعمل في التنظيم المدني، حيث توفرت له فرصة النزول الى مدينة قلعة سكر في الناصرية، مدينة طفولته وصباه، ولكن الأوضاع الأمنية حالت دون بقاءه طويلا، فعاد الى مواقع الأنصار في أربيل، وشارك مع رفاقه في معارك الانفال بكل تفاصيلها وعذاباتها ووحشية مقترفيها.

ثم استقر به المقام في سوريا، ومنها هاجر الى السويد، وعندما لم يتوفر على فرصة عمل باختصاصه الاكاديمي، اضطر العمل كسائق تكسي، وكان قد اقترن بامراة سورية، وانجبا ولدين وبنت واحدة، مؤملين النفس بنهاية قريبة للدكتاتورية والعودة للوطن، غير ان مرضا عضالا داهم جسده بشراسة، ورحل نحو الأبدية باكرا في النصف الأول من عام 2001 ، تاركا لنا فجيعة فقدانه وطيبة سجاياه.

المعلومات الشخصية مصدرها النصير سهيل فاضل

للاضافة والتصحيح الكتابة الى: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.