عندما ضاقت السبل، وأقفلت الأبواب وتضاءلت فضاءات الحرية حد العدم، جراء تصعيد حملات التبعيث القسري، والتسقيط السياسي بإستخدام كل وسائل العنف، لم يكن أمام الشاب الشيوعي طارق عودة من خيار، سوى مغادرة البصرة مدينته الحبيبة نحو شمال الوطن، نحو جبال كردستان، محتمياً بها، آملاً بعودة قريبة ، يعانق فيها نخيل مدينة القرنة التي ولد وعاش فيها، من جديد، ولكي يتنفس هواءها ويغترف من مائها، ويتقاسم الحب مع اهله وناسه فيها، ولكي يستعيد نشاطه السياسي والفكري مناضلاً من اجل وطن يتسع لكل مواطنيه، ويحقق لهم أسباب العيش الآمن والحرية والعدل والكرامة الإنسانية.
غادر البصرة متخفياً عام 1980 والتحق بصفوف أنصار الحزب الشيوعي العراقي في كانون الثاني عام 1981، حيث كان قد انهى لتوه دراسته الإعدادية، فتى يافعا في مقتبل العمر وفي ذروة النشاط والتفتح، محروماً من الالتحاق بالدراسة الجامعية، بسبب حملة الاعتقالات والمطاردات الأمنية التي طالت الالاف من الشيوعيين واصدقاءهم ومؤيديهم والتي تصاعدت منذ ربيع عام 1978، حين اصدرت السلطات الحاكمة في العراق، عبر محاكمات سياسية جائرة، قرارات بإعدام 31 شيوعياً جلهم ممن انقطعت علاقتهم التنظيمية بالحزب الشيوعي العراقي باعتبارهم تحت الخدمة العسكرية الاجبارية، بذريعة النشاط السياسي في القوات المسلحة، ونفذت احكامها بهم بوحشية، على الرغم من ان الحزب الشيوعي العراقي يرتبط بميثاق تحالفي مع حزب البعث الحاكم حتى ذلك الوقت يسمى بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية.
في عام 1981 كان النصير رعد مقاتلا في فصيل المدفعية الواقع على مرتفع يطل على فصيل المكتب العسكري لقوات انصار الحزب الشيوعي العراقي، ويشكل مع فصيل الدوشكا الواقع على الطرف الاخر من الجبل، وفصيل السجن ومقر مكتب السرية، وفصيل الإذاعة والاعلام وموقع الادارة والتموين...، مجموع هذه المواقع الممتدة من نوكان على طول الوادي، صعوداً نحو قمة الجبل تشكل قاعدة ناوزنك الانصارية. وتميز قوام هذا الفصيل الانصاري باحتوائه على عدد من الشبيبة من طلبة الجامعات وخريجيها، من المهتمين بالفكر والثقافة، حيث القراءة والحوار والنشاط الثقافي زاداً يومياً مكملاً للمهام السياسية والعسكرية.
في ربيع 1982 شارك النصير رعد ضمن مفرزة إعلامية واستطلاعية قتالية مع مجموعة من الرفيقات والرفاق حيث تمت زيارة عشرات القرى الواقعة بين منطقة ناوزنك وارياف السليمانية، للتعريف بسياسة الحزب والتعرف على تضاريس المنطقة، واستغرقت المهمة اكثر من شهرين.
صيف وخريف 1982 انتقلت قاعدة ناوزنك بمجملها الى منطقة بشتاشان، وقد فرض هذا الانتقال إعادة توزيع الأنصار في تشكيلات انصارية تناسب طبيعة المنطقة والتعامل مع المهام المطلوب تنفيذها، وضمن ذلك كان النصير رعد واحداً من المجموعة الأولى لقوام فصيل جديد، اخذ مكانه على الرابية التي تقع اعلى موقع الإذاعة على حافة الطريق المؤدي الى قريتي كاسكان ـ اشقولكا، وقد سمي لذلك فصيل كاسكان، ويطلق عليه الأنصار عادة أسماء أخرى منها فصيل الصوندا ميل، او فصيل الكويت لعدم توفر الماء قريبا من موقع الفصيل، ولذا جرى التزود بالماء نقلاً على بغل خارج عن الخدمة، خصص لهذه المهمة.
بهمة عالية اتمت هذه المجموعة الانصارية، وبعددها المحدود بناء قاعة مناسبة لسكن الفصيل استقبالاً لفصل الشتاء الذي كان يطرق الأبواب، وسقيفة تتسع لتحضير وتناول وجبات الطعام فيها. وكان الانسجام والعلاقات الرفاقية الحميمة، ما منح فريق العمل القدرة على تحمل متاعب الجسد وسرعة الإنجاز، وعند حلول المساء تتحول ادواة المطبخ الى آلات ايقاعية وتصدح الحناجر بالغناء. وفي تلك الأجواء كان الرفيق رعد نجماً لامعاً في إدارة هذا الفريق وفي تنظيم فعالياته، جاداً في الجد، دقيقاً في الملاحظة، محاوراً مرناً ومتحدثاً مقنعاً، اليفاً قريباً من القلب، انيقاً، باسم المحيا ومنضبطاً في حياته الحزبية والانصارية.
استشهد في معارك بشتاشان الاولى، جراء الهجوم الغادر لقوات الاتحاد الوطني الكردستاني، على مواقع ومقرات الحزب الشيوعي العراقي في الأول من آيار 1983، وهناك، في طريق الانسحاب عبر جبل قنديل المكلل بالثلوج، وبعد أيام بلياليها من القتال المتواصل، تعرضت مجموعته الى كمين قاتل، قريباً من قرية كويلة، قاوم مع رفاقه ببطولة، واستشهد محتضناً بندقيته، ممسكاً بزنادها حتى آخر خفقة قلب .