متظاهر بصراوي يصرخ والدموع تنمهر من عينيه: "قتلنه الجوع".. يالها من صرخة تختصر كل القصة والقضية. فهل بعدها ومثيلاتها الموثقات بالصوت والصورة، يمكن لاحد القول "ان الحديث عن الفقر في العراق ونسبه مبالغ فيه"؟!
نعم، قديما قيل ان "الشبعان لا يعرف بالجوعان". فهل حقا يمكن التغطية على حقيقة الجوع واشكال تجليه في بلدنا المنكوب ليس بالفساد والفشل فقط، بل وحتى بالكذب حد النخاع؟
في بلادنا جوع وفقر ومرض، واناس لا يجدون قوت يومهم، وفي المقابل هناك من يكاد يختنق بتخمته. والمؤشرات الاحصائية للدولة كما للامم المتحدة تتحدث عن نسب ذلك ، والوضع يسير في خط تنازلي يسهم فيه التدهور الحاصل في الحصة التموينية، وعدم انتظام توزيعها ومحدودية موادها، وقلة المبالغ المخصصة لها في الموازنة العامة للدولة، وتناقصها التدريجي المتعمد والمخطط باتجاه الغائها، فيما هي تسهم في سد رمق الملايين. واذا كان المبرر لعدم اهتمام الدولة بها هو ما يصاحبها من فساد، فلماذا لا يكافح هذا الفساد بدل ان تقطع اللقمة عن الفقراء؟
لا احد يريد ان تستمر هذه البطاقة التموينية على ما هي عليه اليوم في بلد نفطي موارده يتباهى بها بعض المسؤولين في المؤتمرات الدولية ، ويقولون ان العراق اصبح قبلة المستثمرين في العالم! نعم، قبل التفكير بالغائها والخلاص منها، على الدولة ان توفر البدائل، وهذه قطعا لا تتجلى في تحويلها الى دنانير لا معنى لها ولا قيمة. وتلك حقيقة يعرفها المتخصصون والمسؤولون قبل غيرهم .
ان البديل المطلوب الآن عاجلا هو تأمين ضمان اجتماعي شامل، ودعم واضح لفئات المهمشين والفقراء وحتى من ذوي الدخل المحدود. وان تكون موارده اساسا مما تخصصه الدولة ومن الضرائب التصاعدية التي يفترض ان تعتمد بعيدا عن المحسوبية والمنسوبية والفساد، وان يخضع لها الجميع من دون استثناء .
وارتباطا بهذا لا بد من السير على طريق تنمية حقيقية، وتطوير القطاعين العام والخاص ونشاطهما الانتاجي بما يوفر من فرص عمل للعاطلين عن العمل. ولا يمكن التحجج بعدم توفر السيولة النقدية بعد الوفرة التي تحققت في هذه الايام، والتي تكمن وراء " سخاء " الدولة وهي تعلن اليوم عن قرارات بصرف الملايين من الدولارات ؟
فلقد تم تجاوز عجز الموازنة المخطط باقرار الحكومة نفسها، وهناك حتى الآن وفرة تتراوح حسب التقديرات بين 25 و30 مليار دولار، وما زالت هناك خمسة اشهر على موعد اقرار الموازنة الجديدة ؟ فهل ستصرف المبالغ المذكو رة على " شراء " سكوت البعض، كما قيل واعلن عبر الفضائيات ؟ ام انها ستكون رافعة لتوجه جدي نحو تنويع اقتصادنا ، وعدم بعثرتها كما كان يحصل سابقا؟
جيد ان تتم تلبية مطالب المتظاهرين والناس عموما، وان تتخذ قرارت بالصرف وتخصص له الاموال. ولكن تبقى الاسئلة الكبيرة: لماذا الآن فقط، بعد انفجار التظاهرات؟ وكيف ستصرف هذه الاموال؟ وألن تذهب الى ذات الاوعية الفاسدة ؟
وفي معرض المراجعة، وطالما ارتفعت بفضل مشاكل الآخرين اسعار النفط بما وفرت وتوفر من فائض مالي، يتوجب التوقف عند الاجراءت التقشفية التي فرضتها موازنة 2018، وان يتم تقليصها في اتجاه الغائها، خاصة في الوزارات الخدمية وما فرضت من رسوم مرهقة للمواطن، كذلك الضرائب المتنوعة غير المباشرة.
ويبقى مهما ان لا تظل " هرولة " الدولة ومؤسساتها الآن بفعل ضغط الحركة الاحتجاجية، بل ان تكون استجابة واعية مخططة غايتها الاستثمار الامثل للموارد، بما يحقق تنمية حقيقية بات بلدنا بامس الحاجة اليها، وان تعطى الاولوية فيها لقطاعات الصناعة والزراعة والخدمات الانتاجية.
ولا بد ايضا من العناية الفائقة بفئة المتقاعدين الواسعة، التي تعاني الجوع والمرض بمعنى الكلمة، والتي ليس مفهوما على الاطلاق ان يستمر اتخاذ اجراءات تقلص من رواتب منتسبيها، بل وتلغيها في حالات معينة، وكأن من يحال الى التقاعد تتقلص عنده متطلبات الحياة !
ومن المؤكد ان المراجعة الصادقة والكاملة التي ندعو لها هنا، لن تتحقق الا بعد مراجعة حقيقية لمنهج السياسات التي ادت الى ما نحن فيه اليوم، وبعكسه لن تستقر الاوضاع. ولا بد ان المتنفذين سمعوا بالقول الشهير لصاحبه الأشهر: "لو كان الفقر رجلا لقتلته". فالفقر والجوع والبطالة وتردي الخدمات هي في الاساس ما يدفع بالناس الى الشارع، فاذا تركوه يوما واستمر الحال، فانهم عائدون اليه لا محال.
إضاءة.. الجوع
- التفاصيل
- محمد عبد الرحمن
- آعمدة طریق الشعب
- 1860