منذ أن وعيتُ على الدنيا في أوائل ستينات القرن الماضي حتى احالته على التقاعد في أوائل السبعينات، لم أرَ أبي يوماً متذمراً أو مستاءً بسبب تأخر راتبه الشهري كونه عاملاً في الميناء، بل كان يتسلمه في الوقت المحدد دائماً. كما لم أقرأ أو أسمع عن موظفي دولة ما  توقّفت رواتبهم أو تأخرت عن موعدها كل شهر ، أو تم التلاعب بها ، سوى في بلدي !

في الثمانينات وعند اشتعال الحرب الملعونة أخذ النظام الفاشي يتحجج على العمال والموظفين بعدة حجج ، منها إلغاء صفة العمال وتحويلهم إلى موظفين لإضاعة الفرصة عليهم في المطالبة بأدنى حقوقهم . كذلك الموظفين وحججه عليهم بالاستقطاعات ضمن المجهود الحربي وما شابه ذلك. بعدها جاء حصار التسعينات الذي أودى بأحلامهم وجعلهم يتضورون  وعوائلهم على أرصفة الجوع والعوز والمرض ، وليأتي التغيير الذي حلمنا به عند سقوط النظام الفاشي ، لكن بشكل مغاير لكل أحلامنا! حيث أصبحت رواتب الموظفين في زورق تتقاذفه أمواج المتحكمين الفاسدين المتصارعين على الكراسي والمناصب. وبين أهواء وأمزجة هؤلاء ضاعت مصائر ولقمة عيش الملايين من العوائل التي تنتظر الراتب بصبر أيوب !

تغيّر سعر صرف الدولار وحل التضخّم وارتفعت التكاليف، ومعها نسبة الرواتب، وصدر سلّم للرواتب متهرئ الدرجات على وفق مزاج هذا وذاك ، دون أدنى دراسة علمية دقيقة وضمير حيّ. هل سارت الأمور كما نريد ؟! لا أبداً ، صار الموظف يعاني الأمرّين بين قرارات تأخذه كالأعاصير ترمي به يمينا وشمالا، موازنة انفجارية، وسعر خيالي لبيع النفط ، وارتفاع كبير في الأسعار والراتب كما ه ، ثم موازنة مترنحة ومرتبكة وهبوط سعر النفط إلى أدنى المستويات، واستقطاع نسب من راتب الموظف دون أدنى حق، وكأنه المسؤول الأول والأخير عن زعزعة الاقتصاد الوطني ؟! الموظف هو المتضرر دائما، سواء انتعش الاقتصاد أو تراجع!

والطامة الكبرى اليوم ان ينتظر الملايين على جمر اللظى رواتبهم دون أدنى بارقة أمل بتحسن الوضع نهائياً، إذ صاروا بين مطرقة المصارف وسندان بطاقات الكي كارد والماستر كارد، يقفون عاجزين أمام انهيار اقتصادي لا ناقة لهم فيه ولا جمل، فقط عليهم أن يتلقوا الصدمات والخسارات! رواتب خيالية لدرجات وظيفية ما انزل الله بها من سلطان، وأسماء فضائيين لا حصر لها وكلها لم تعانِ أبداً. اما الموظف العادي فراتبه بين حانة ومانة، ضائع لا يعرف أين يقر به القرار في بلد تتناهبه ضمائر ماتت ونفوس علاها صدأ الفساد!