في ستينيات القرن الماضي، كنت أشاهد أبي كل شهر وبعد استلامه الراتب يذهب الى محل بيع المواد الغذائية ــ كان لكل عائلة في ذلك الوقت دكان خاص تتعامل معه، وكان الرجل الذي نتسوق منه (الراشن) كل شهر هو جاسم محمد جوهر. و(الراشن) هو احتياجات البيت من المواد الغذائية بكل أنواعها.

أذكر انه كان أكثر من مرة يأخذني معه وتحديداً في السبعينات لأساعده في جلب (الراشن) من دكان (ابن جوهر). لم نشعر وقتها بالحاجة لشيء لأن الحصة التي يشتريها أبي تكون كاملة جداً، وإذا نقصت مادة ما نذهب لدكان صاحبنا (ابن جوهر) ونشتريها.. بالدَين طبعاً، لأن الحساب يكون بعد استلام الراتب القادم دائماً.

مرت الستينات والسبعينات على هذا النحو، وجاءت الثمانينات بحربها التي لا معنى لها سوى نزيف الدم والخراب الذي عمَّ مدينتي ومدناً أخرى، ونزوحنا القسري بعيداً عن بيتنا الأول.

وجاءت التسعينات بحصارها المفروض تآمراً من قبل النظام الفاشي المقبور مع مَن ادّعوا محاصرته، فقد كان حصاراً على الشعب المسكين المأخوذ بالنار والحديد. فجاءت البطاقة التموينية التي أنقذت بعض العوائل من غائلة الجوع والعوز للمادة الغذائية، التي رغم شحّتها وارتفاع سعرها آنذاك كانت تسدّ بعض النقص الحاصل في احتياجات البيوت. ورغم ما لها وما عليها كانت العوائل تنتظرها بفارغ الصبر، وهناك مَن كان يبيع حصّته من السكّرمثلا ليؤمّن حليبا لأطفاله، وآخر يبيع الشاي ليشتري علاج مرض مزمن، وهكذا دواليك!

وحينما سقط النظام الفاشي إلى غير رجعة استبشر الناس خيراً، وانتشرت أخبار حول البطاقة التموينية وما ستحتويه من مواد وصلت إلى أكثر من (41 مادة غذائية) بضمنها السجائر والمشروبات وغيرها، ما أشاع الفرح والسعادة بين الناس فتنفّسوا الصعداء لاعنين أيام الحصار والأمراض التي أكلت الأخضر واليابس، وأذبلت وروداً وعصافير.

لكن الفرحة لم تدم، إذ ظهر ان كلّ ما قيل كان مجرد شائعات، وبدأت مواد الحصة التموينية بالتناقص شيئاً فشيئاً، وبان تذمّر العوائل مرة أخرى نتيجة هذا النقص!

واليوم نستلم في شهر الطحين فقط، وفي آخر الرز والزيت، وفي ثالث السكّر دون بقية المواد، إضافة إلى استقطاع مبلغ عن كل فرد يستلمه الوكيل. والأدهى من كل شيء ما نسمعه عن فساد هذا المسؤول وجلبه مواد منتهية الصلاحية، وسرقة ذاك المسؤول لمبالغ الحصة التموينية بصفقات مشبوهة وتهريبها خارج البلاد، ما بدّد الفرح وأصاب الناس بالقنوط.

وما زال الوضع حتى هذه اللحظة على حاله وأكثر. فنبقى منذ أكثر من 17 سنة نفتقد البطاقة التموينية ومفرداتها، التي انتقلت كأرصدة في بنوك أوربية وخليجية، مردّدين (الذكر الطيب) لها، ومتناسين أنها الركن الرابع للمستمسكات الرسمية، التي أصبحت أيقونة نعلّقها في أعناقنا!