قبل يومين استذكر الناس المعلّم، وكلٌ أدلى بدلوه عن الكائن الذي يشعل نفسه ليضيء الطريق للآخرين، ويفتح النوافذ والأبواب مشرعةً أمام مَنْ يريد أن يبصر الحقيقة، من خلال التعلّم والغوص في بحار المعرفة!
وما أن اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بهذه الذكرى، حتى عدتُ بذاكرتي لأيام خلت، عندما كنت تلميذاً أضع خطواتي الأولى على طريق العلم والمعرفة، وكيف كان المعلمون إبّان الستينات والسبعينات من القرن المنصرم، قدوة للناس جميعا، فهم العَلَم والفنار الذي يُهتدى به، يكنّ الناس لهم احتراماً وتقديراً عاليين، ولهم الحظوة، ومنهم تؤخذ المشورة، ويستأنس برأيهم!
كان المعلّم شخصاً غير عادي، بهندامه وتصرفاته وأناقته، وأسلوبه في التدريس ونزاهته وعفّته، وكبريائه وهيبته!
كان النجم الذي يهتدي بنوره الآخرون، حيث العبارة المحكمة، والكلام المنمّق، والرأي السديد، إضافة إلى الثقافة والأدب والمعرفة والاتزان!
اذكر حين كنت في المدرسة الابتدائية، في مدرسة الخليج العربي جنوب الفاو، كنّا نتسابق عند بدء الدوام لنحظ بخدمة معلمينا، من خلال استقبالهم قبل أن يصلوا إلى باب المدرسة، لأخذ دراجاتهم الهوائية بعد أن يترجلوا منها. كنّا نتقاسم دراجاتهم، فدراجة أستاذ عدنان معلم الانكليزي لي، ودراجة أستاذ عواد معلم العربي لأحمد، ودراجة أستاذ جبار معلم الرياضيات لعلي. كانوا يأتون مهندمين ومتأنقين بالبدلة (القاط) السموكن، والحذاء (القبغلي) والرباط المناسب للقاط!
كان المعلّم حين يدخل الصف، تدخل معه المهابة والاحترام والتقدير، فيسود الصمت، والكلّ يصغي بانتباه لما يقول، كما كان يجلب معه وسائل الإيضاح ليعطي الدرس حقّه، بالإضافة إلى نظافة المدرسة من جميع جوانبها ومرافقها وحمّاماتها وما إلى ذلك!
اليوم .. المدارس تشكو الإهمال ، والأوساخ ، وانسداد مجاري حمّاماتها ومرافقها الصحية ، إضافة إلى انقطاع الماء والكهرباء في اغلب الأحيان !
اليوم.. المعلّم يشكو عدم احترام الطلبة وعدم انتباههم، مع سوء تصرفاتهم، وعدم قدرته على إعطائهم دروساً في التهذيب والتأديب، لأنه سيتعرض إلى مشاكل وتهديدات من قبل أهلهم وذويهم تصل حد الاعتداء عليه!
اليوم .. المدارس الحكومية اغلبها آيل إلى السقوط، وحيطانها متآكلة، مع تكسّر زجاج شبابيكها وانعدام النظافة، مع ازدياد عدد المدارس الأهلية ، وإغراءاتها التي تقدّمها إلى المعلمين والمدرسين والتلاميذ وذويهم ، وقد وصل الأمر أن تنشر الأهلية إعلاناتها على جدران الحكومية ومقابل أبوابها !
التربية والتعليم، ومنذ أن وقف المعلّم في تسعينات القرن الماضي يبيع السجائر ويشكو العوز والفقر والانصياع لأوامر تلميذه، بدأ العد التنازلي لها، من سيء إلى أسوأ، حتى وصلنا إلى تردٍ في كل شيء، وصار الطالب بعيدا عن معلمه، والمعلّم لاهثا وراء لقمة عيشه، فضاع الخيط والعصفور!
لهذا صرخ الشباب في ساحات التظاهر: نريد وطناً، يحترم العلم والمعرفة، من خلال الاهتمام الحقيقي بالمعلم والمدرسة والمناهج التعليمية وبالطالب أيضا!
حين يكون التعليم حقيقيا، ويجد المعلم والطالب نفسيهما في وطن يحترم العلم والإنسان، سنجد معلّمنا الحقيقي الذي ضاع نتيجة الفساد والمحاصصة المقيتة التي نخرت البلد.. وعندها سنحتفل بعيده أسمى احتفال!