في مثل هذه الأيام، وقبل سبع وخمسين سنة، ارتكب البعثيون الفاشست ومَنْ ساندهم أبشع جريمة في تاريخ العراق، حينما جاءوا على دبّابة أمريكية لتقويض الجمهورية الفتية التي فتحت أبواب الأمل والخير والسعادة للفقراء، وسارت بالوطن على سكّة الأعمار والبناء والتقدّم في شتّى المجالات العمرانية والصناعية والزراعية والثقافية والتربية والتعليم!
في مثل هذه الأيام ابتدأت سنوات الدم والقبح والخراب والكراهية والبغضاء والثأر تدّب بين أبناء الوطن الواحد، لتستمر وصولا إلى أيامنا هذه، حيث الفساد والمحسوبية والمحاصصة الفئوية والحزبية تنخر في كل زاوية من زوايا البلاد!
لم أكن أعي ما كان يفعله أبي (رحمه الله) في مثل هذه الأيام قبل سبع وخمسين سنة، وقتها لم أكن قد أكملت العامين بعد، واخطوا أولى خطواتي في هذه الحياة التي حملتْ وما زلت أحمل أثقالها على كاهلي رغم كل شيء!
أبي الذي كسر الفاشست ظهره بعد انقلابهم الدموي الأسود، إذ كان قاسمياً حدّ النخاع، بكى بعد ذلك كثيراً، وكان يصعد إلى سطح بيتنا الطيني كل مساء في مثل هذه الأيام، يجلس قبالة القمر، يحدّق فيه كثيراً والدموع تغسل وجنتيه!
كنت أسأله: ما بكَ ؟! لماذا تبكي؟! يشيح بنظره عني ويكفكف دموعه، قائلاً: لا شيء. لا شيء.. ستعرف عندما تدور بك عجلة الأيام يا بني!
وحين صرت أعي الأشياء والأفعال عرفت ذلك ، حيث أخبرتني أمي ( يرحمها الله ) ذات يوم: يا ولدي في مثل هذه الأيام هجم الأشرار على أناسٍ كانوا يعشقون الوطن والناس، قتلوا الزعيم الذي احتضن الفقراء وبسط كفيّه وقلبه وكل شيء فيه لهم فأحبّوه ، كذلك عاثوا في البلد فتكاً وقتلاً ، سفكوا دماءً بريئةً لشيبة وشباب وفتية وصبايا ونساء وأطفال ، وعاثوا في الأرض فساداً ، فاصطبغت الشوارع والساحات بالدم ، وانتهى عصر كان من أجمل العصور التي عاشها العراقيون ، لتأتي بعده سنوات مليئة بالخوف والحروب والاعتقالات والتشريد، وصولا الى الفساد الذي دمّر كل شيء!
منذ شباط 1963 وصولا إلى شباط 2020، لم يعش العراقيون يوماً مستقراً ومبهجاً ومفرحاً بشكل حقيقي أبداً!
وحينما انقشعت غيمة الدكتاتورية السوداء، وتنفس الناس صعداء الحرية ونسائمها التي كانوا يحلمون بها، خيّمت عليهم غيوم أكثر قتامة، حيث الإرهاب، والقتل على الهوية، والطائفية، والمحسوبية، والمحاصصة الحزبية، واسوداد الأفق، وغموض المستقبل ومجهوليته، وضياع كل شيء، فتوقفت الصناعة والزراعة والتجارة، وساءت الخدمات، وتردّى التعليم، وتدهورت العلاقات الاجتماعية، فصرنا نتلمس طريقنا عبر دهاليز مظلمة من الخوف والقلق!
لكن الشباب الذين فتحوا عيونهم على أخبار الحروب ومآسيها، وآثار حصار قاتل، وخراب وفساد، انتفضوا ليعيدوا إلى الوطن بهاءه، ورونقه، ويبنوه من جديد! ما علينا سوى الوقوف معهم ومساندتهم، لأنهم طرّزوا العَلَمَ والأمل بدمائهم الزكية، ولنغيّر قتامة هذا الـ (شباط) الذي يعيد إلينا كل عام ذكريات مُرّة وأليمة بسواده الذي ما زال يجثم على نفوسنا!