ما يدفع الناس للنزول الى الشوارع بهذه الصورة، اكبر بكثير من كلّ الفزّاعات (غازات مسيلة.. رصاص حي.. اغتيال.. خطف) التي يستخدمها (اصحاب الانياب على اختلاف مسمياتهم) ضد شباب انتفاضة تشرين الباسلة، والسبب يعود الى الداء الذي تجاوز حدود التحمل. فالفشل السياسي والاقتصادي والامني والخدماتي الذي وضع العراق في مؤخرة دول العالم كان سبب التحول الجذري في عقول ومشاعر العراقيين بمختلف شرائحهم. هذا التحول (الزلزال) هزّ الارض تحت اقدام اللصوص وأفقدهم صوابهم وجعلهم يبتعدون عن جميع المعالجات السياسية الواقعية والمعقولة، ويتخذون من المقاربات الامنية حلا رئيسا والتي هي اشبه بسكرات الموت والرحيل الاخير.
انّ العراقيين الذين تألموا بصمت وعانوا لعقود من الاذلال والقمع والوعود الكاذبة، خرجوا اليوم لا من اجل الخدمات والمطالب الآنية وانما من اجل تحطيم (التمثال) مرة ثانية وارساء قواعد جديدة لنظام سياسي جديد ونموذج اقتصادي واجتماعي جديد يحقق لهم الحياة الكريمة. وعلى الرغم من ادراكهم بأنّ المخاض صعب والآلام قاسية والتضحيات مئات الشهداء وآلاف الجرحى، لكنهم يعرفون انّ الحصيلة النهائية ستقود حتماً الى ميلاد عراق مختلف، عراق يتسع لجميع ابنائه وليس لحفنة من الجشعين والفاشلين.
هذا الوعي الذي تحول الى فعل مدوّي في الاول من اكتوبر من السنة الفائتة، والذي سيكتب عنه التاريخ بحروف المجد والعظمة، نشأ وتشكل نتيجة ضغط المطالب الاجتماعية والحاجات الجديدة للانسان العراقي التي جادت بها التكنلوجيا الرقمية المعاصرة، والتي جعلت من وعي المواطن يسبق واقعه بمسافة زمنية ليست بالقصيرة. وهذا ما لا يفهمه اصحاب المصالح والنفوذ المتحكمون في المشهد السياسي الذين ظنّوا أنّ هذا الصراخ مجرد للتنفيس واراحة مؤقتة للضمير وسيتوقف رويدا.
لا يعلم المتسلطون انّ هناك دائما في السياسة ما وراء الأكمة مما لا يُرى ولا يُحسب حسابه، ينزل فجأة كضربات القدر! فالنقمة التي تراكمت ضدهم لسنوات طويلة لم تقتصر على فئة او شريحة معينة متضررة بل سرت في أوصال المجتمع برمته، وتحولت إلى لحظة مفصلية، لحظة تحول هائل في قناعات البشر بأنّ هذا النظام السياسي المبني على الخراب والتزوير والانتقام يجب دفنه مهما ماطل المعنيون في تسليم شهادة الوفاة.
لقد خبر شباب الانتفاضة بحدسهم وفراستهم كلّ حيل ومراوغات المتسيدين وما عادت تلك الألاعيب تمر عليهم بسهولة، فالوعي يتصاعد والاصرار يشتد والاحتجاجات تكبر وتتجدد، شبان وشابات، التحقت بهم جموع طلابية ومنظمات نسوية ونقابات واتحادات لمختلف المهن والاعمال التي تمثل اغلب ابناء الشعب العراقي، كلهم تجمعوا تحت خيمة الساحات وتوسدوا ارصفتها رافضين رغم العنف والاعتقال ان تتحول احلامهم في وطن تسود فيه الكرامة والعدالة الى كوابيس من الفشل والخنوع.

عرض مقالات: