حينما نزور أي بلد من البلدان العربية أو الأجنبية، أو نشاهد تحقيقا تلفازيا عن أي بلد، ننبهر ونندهش من احتفاظهم بكل دقائق الماضي ــ الرياضة، الأدب، الفن، المعمار، الصناعة، التاريخ بكل أشكاله وأحداثه وشخوصه ــ حيث نقرأ ونشاهد ونسمع كل ما يتعلق بماضيهم وناسهم، إضافة إلى اهتمامهم الملموس بالبنايات والأماكن التراثية التي يعتبرونها من آثارهم ويطالبون بإدراجها ضمن لوائح التراث الإنساني دائما!
أذكر عام 2009 حينما زرنا المملكة العربية السعودية ضمن وفد ثقافي بصري ، كان ضمن برنامجهم المُعدّ ، زيارة المتحف السعودي والبيوتات التراثية ، إذ اطّلعنا على كل صغيرة وكبيرة من تراثهم حتى البدوي والإسلامي ، وكذلك منزل الملك سعود ومقتنياته الخاصة ،وغير ذلك ،، وفي إيران تم تحويل قصر الشاه إلى متحف ، كي يشاهد الناس كيف كان يعيش أولئك الناس،، والأمثلة كثيرة ، حيث تم تأسيس متحف للكاتب العالمي العربي المصري نجيب محفوظ وكذلك للفنانين أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب في القاهرة ،، وتزخر مدن العالم أجمع بهذا التراث أيضاً، ليؤمها المواطنون والسياح ويطّلعوا على تراث أولئك الرؤساء والفنانين وغيرهم!
أمّا نحن، فيعترينا الأسى ويعرّش الأسف والحسرة على كل أحلامنا وكلماتنا، إذ نتحدث عن حضارة تمتد لأكثر من سبعة آلاف سنة، بالإضافة إلى التاريخ الإسلامي، لم نحفظ من جمالياتها وارثها وأحداثها وبناياتها إلاّ ما بقي رغما عنّا وعن تقلبات الطقس والأحداث والحروب والتخريب!
قبل أيام حضرت انتخابات منتدى أدباء الزبير التي جرت في صف من صفوف بناية قديمة ــ مدرسة الحسن البصري ــ يقولون أنها آيلة الى الزوال بفعل موجة الانفتاح الاستهلاكي التي تجتاح البلد هذه الأيام دون التفكير بالتراث والتطور الحقيقي للإنسان، وتحويل اغلب البنايات والأماكن القديمة إلى أسواق تجارية حديثة (مولات) وكراجات ذات طوابق متعددة ـــ تصوروا يهدّون البناية التراثية التي تعتبر إرثا إنسانيا لهم ولأجيالهم، ليبنوا مكانها سوقا أو كراجاً حديثين، وكأن الساحات والأراضي البور الشاسعة قد خلت منها البلاد ، وما حدث لبناية بهو الإدارة المحلية والمحاولات العديدة على بناية نقابة الفنانين في البصرة ليس ببعيد!
سألت عن هذه المدرسة، كان الجواب: أسست عام 1917، أي قبل أكثر من قرن، وهذا يعني أنها دخلت ضمن دائرة الآثار والتراث وعلينا أن نحافظ عليها ونرممها، لنجعل منها متحفا لهذه المدينة، وأضافوا: خرجت منها فطاحل في الأدب والفن والعلم والمعرفة ، زخرت بهم ساحات الإبداع العراقي والعربي ، لكنهم سيهدمونها ويبنون مكانها سوقا تجاريا حديثا ..للأسف ! أصبت بالإحباط من كلامهم الأخير، ودارت في خيالي صور وتساؤلات كثيرة!
وتظل تدور في خيالك عزيزي القارئ تساؤلات كثيرة، ليأتيك الجواب: انه صراع المال طبعاً!
فتلعن المال والعقلية التي يتحكم بها على وفق أهوائه، وتلعن الساعة التي جعلت منه مسيّراً لكل الأمور، وبأيدي أناس لا همّ لهم سوى الربح والغنى على حساب ارثنا وتاريخنا وحضارتنا وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا وإنسانيتنا!
لذا على وزارة الثقافة والآثار والسياحة أن تقوم بجرد الأبنية التراثية كافة وبكل أشكالها ومرجعاتها، لتبدأ بخطة تحويلها إلى أماكن سياحية يؤمها الناس من كل مكان ليطّلعوا على تراثنا الإنساني العريق، واعتقد أنها لن تقصّر في ذلك!