العام ٢٠١٩ الذي نودعه، وخاصة في أشهره الأخيرة، يختلف كثيرا بالنسبة لشعبنا وعراقنا عن الأعوام التي خلت. انه عام الشعب والمنتفضين بامتياز. حدث فيه ما لم يكن بالحسبان بالنسبة لكثيرين حتى ظن البعض ان " دار السيد مامونة "، فيما استهان أصحاب " ما ننطيهه " ومن تقاسم معهم هذه النظرة القاصرة بإرادة الشعب، وعولوا كثيرا على سطوتهم ونفوذهم وأبواقهم المضللة. واعتقد هذا البعض، وربما لا يزال، ان ذاكرة شعبنا ضعيفة وانه صاحب " فورة " سرعان ما تنتهي وتزول. بل تجرأ احدهم يوما ليصف هذه الملايين المحتجة بانها " فقاعات".
سجل التاريخ انه في العام ٢٠١٩ انتفض شعب العراق وشبابه ليس من اجل وظيفة او لتوفير خدمة او راتب اعانة اجتماعية، ولا لسد نواقص او ثغرات معينة، وما أكثرها في بلادنا، بل ان الامر تطور الى عمل دؤوب صبور ومضنٍ من اجل دحر ما كان سببا رئيسا في ما حصل ويحصل من كوارث ومآسٍ ونكبات. فالشعب هذه المرة استهدف منظومة الحكم التي ادارت البلاد منذ عام ٢٠٠٣ حتى الان ، وكانت بحق منظومة فاشلة وسيئة وبددت المال العام وعمقت التمايز في المجتمع، " فطفرت " الأقلية المفرطة في الغنى وسحقت الأغلبية، فيما تغطت الملايين برداء الفقر والجوع والمرض ، ورجع العراق سنوات الى الوراء .
سيذكر التاريخ انه في العام ٢٠١٩ استعاد العراقيون تاريخهم المجيد ومآثرهم وذكريات ثوراتهم وانتفاضاتهم، وسجلوا اروع ملاحم البطولة والجود بالنفس الذي هو ذروة العطاء والتضحية، واضاؤوا ليل بغداد ومحافظات الوطن بأكثر من ٥٢٠ كوكبا تنير اليوم الطريق للحالمين بغد اخر وعراق جديد، فيه الإنسان قيمة عليا ويسوده الخير والأمان والرقي والازدهار والعدالة والحريات الحقيقية ، ولا مكان فيه للعسف والاضطهاد والتمييز بين العراقيين .
في العام ٢٠١٩ كما في العام ١٩٤٨ اسقط المنتفضون السلميون حكومة أوغلت هي الأخرى مع اجهزتها ومن يأتمر بأمرها والداعمين والمساندين لها في الداخل والخارج، في دماء العراقيين وسلبتهم الحق في الحياة وسببت لهم الأذى الجسيم. فبالإضافة الى الشهداء البررة هناك الآلاف من الجرحى والمعوقين والعوائل المنكوبة ببناتها وابنائها.
في العام ٢٠١٩ وجه شباب العراق المتطلع دوما الى التغيير والحياة الكريمة ابلغ واقوى الرسائل الى الحكام الظالمين والمتنفذين الفاسدين، مفادها ان الشعب باق وإعمار الطغاة قصار. وانه يمهل ولا يهمل. وانه يبرهن من جديد على عمق الحقيقة في قول الشاعر : اذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلابد ان يستجيب القدر .
فها هي إرادة شعبنا وشبابه، نساء ورجالا، تحقق أولى بشائر النصر المبين، وتم تمزيق لافتة " أني شعليه " وغدت من الماضي وصرنا نشهد صورا من التكاتف والتعاضد قل نظيرها، فيما أم الشهيد تقود الجموع معلنة : لا تراجع ، نموت عشرة نموت ميه احنه قافلين على القضية .
شعبنا في انتفاضته المجيدة هجر الصمت واليأس والقنوط وكسر قيود التردد والانتظار والرفض السلبي، ودخل أفواجا الى ساحات العز والفخر والكرامة. وامام مثل هذه الإرادة والتصميم يبدو عبثا استمرار البعض المتشبث بكرسي السلطة والنفوذ في مماطلته وتسويفه والسعي لكسب الوقت، فلا خيار الا خيار الرضوخ لارادة المنتفضين، لأنه اسلم وأسلس الطرق والضامن لحقن دماء العراقيين.
ان انتفاضة شعبنا، رغم القتل العمد والمطاردات والاغتيالات والتصفيات والاختطاف والتهديدات وانتزاع البراءات والسعي الى تكميم الأفواه و " الطرف الثالث " المجهول المعلوم، والاستعانة بترسانة القمع والتضليل والتدليس والافتراء، تسير بثبات الى تحقيق أهدافها. وسيسرع من ذلك كثيرا تجاوزها لبعض من الثغرات والنواقص التي يعرفها المنتفضون البواسل قبل غيرهم، ويراهن عليها من يناصب الانتفاضة العداء واقعا ويعلن كذبا دعمه لها.
نودع عام ٢٠١٩ ونستقبل عام ٢٠٢٠ وثقتنا راسخة بشعبنا وشبابنا وقدراتهم اللامحدودة على اجتراح المآثر والبطولات وإلحاق الهزيمة بنظام المحاصصة والفساد والفاشلين والمليشياويين، وعلى صيانة سيادة العراق وأمنه واستقراره وقراره الوطني المستقل.

عرض مقالات: