وأنا أشاهد ما يصنعه الشباب المنتفضون هذه الايام من تحويل الأماكن الخربة والمتروكة والمظلمة الى أماكن تشعّ منها الحضارة والإصرار على العمل والبناء، وتقديم الصورة المثلى للشباب الواعي والمنتمي للوطن والناس حقا، تذكرت حين كنا صغارا في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وكيف كنا نعمل من القناني الفارغة وعلب المعجون والألبان وصفائح الدهن والكارتون وعلب السجائر بيوتا وزوارق وطيارات ورقية وهواتف وهياكل متنوعة نلعب بها!
هذا يعني أن الشباب طاقة كبيرة للابتكار والخلق والعمل على تقديم الأفضل في كل زمان ومكان، بل قادرون على تحويل الصحراء الى جنائن خضراء. وإذا فتحنا لهم الأبواب ومنحناهم فرص العمل نكون قد فتحنا أبوابا مشرّعة على مستقبل البلاد الزاهر!
وانا اكتب هذه الكلمات جالت في ذاكرتي صور المنتوجات الوطنية أيام طفولتنا، حيث دهن الراعي وسجائر بغداد والبان ابي غريب والبجاري ومشتقاتها وتراوبي عنب وصودا وسيارات سكانيا وادوية سامراء وغيرها، عندما كانت المصانع تدور بلا توقف ابدا!
تذكرت سفرتنا عام 1975 حين كنا في المتوسطة الى شركة الحديد والصلب لنشاهد صناعة الحديد والشيلمان وغيرها عن قرب، ولا يمكن نسيان مصانع التعليب والممالح والمشروبات الغازية والروحية والاسمدة والاسمنت وما الى ذلك من الشركات الصناعية المنتشرة في طول البلاد وعرضها، حيث أخذ الشباب بالعمل فيها بشكل مؤقت أو دائمي من خلال التقديم الى معاهد ودورات متخصصة بهذه الصناعة أو تلك!
خلال الحروب العبثية التي أشعلها النظام الفاشي المقبور وسعيه الى عسكرة البلاد والعباد، توقف البعض من هذه المصانع وتحوّل البعض الآخر الى التصنيع الحربي. وبعد سقوطه عام 2003 توقفت جميعها وأُهملت فصارت هياكل حديدية ينعق فيها البوم. ثم أكملت عليها لجنة النفط والغاز التي رأسها الشهرستاني عند اصداره امراً بعدم تزويد الشركات التي يكون الغاز الطبيعي مادة أولية وحساسية في إنتاجها بهذه المادة وأكبر مثال على ذلك شركة البتروكيمياويات، ما أدى الى توقفها بالكامل عن العمل!
انعدمت الصناعة فصرنا نستورد كل شيء حتى مياه الشرب والملح والمعجون والعصائر والبساكت، كما توقفت الزراعة وأصبحنا نستورد الخضر والفواكه حتى الطماطم والفجل والكراث!
المحاصصة والفساد وتوقف الزراعة والصناعة.. هذا كله وغيره أدى الى تدهور البلاد وخرابها من خلال عدم الإهتمام بالتربية والتعليم فساءت نتائجها وانعدمت الخدمات بكل انواعها كالمجاري والنظافة وعلاج المرضى وما الى ذلك. فتفاقمت الأزمات حتى ولّدت انفجارا كبيرا من الرفض لهذا الواقع المزري، فخرج الشباب بكل عفويتهم وصدق انتمائهم للوطن والناس، بصدور عارية محتجين صارخين مواجهين عنف السلطة المتشبثة بالكرسي رغم فشلها بإدارة البلاد والعباد، وبطشها بهم بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع والاختطاف والاعتقال والتنكيل، خرجوا ليقولوا: ارحلوا يا مَنْ حوّلتم بلادنا من صناعية منتجة ومصدّرة الى خربة مستهلكة ومستوردة تعاني الأزمات المتفاقمة ولا حلّ لها الاّ برحيلكم !
بانتفاضتهم هذه أوصلوا للعالم رسالة مفادها أن الشباب هم صانعو المستقبل بكل أشكاله!
لقد حوّلوا القبح جمالا وأشاعوا المحبة وروح التآلف والعمل وعشق الأرض في كل ساحات التظاهر وشوارعها!
ما علينا سوى أن نقف مع هؤلاء الشباب ونفتح لهم الابواب والنوافذ قائلين: اعملوا، فهذا وطنكم ولن يبنيه غيركم أيها المبدعون.
وعندها ستعود الصناعة مزدهرة أكثر فأكثر وسينعم الناس بما تطرحه معاملنا ومصانعنا من منتوج وطني خالص في الأسواق!