المنع والتهميش كانا سمتين بارزتين في سياسة النظام السابق، فلا غرابة أن يصدر قرار من ذلك النظام بمنع ألف كاتب وكتاب، والغالبية من خيرة الادباء والشعراء والمثقفين العراقيين. ولم يقتصر المنع على هذا الجانب، بل تعداه الى الموسيقى والغناء، فاختفت من موجات الاذاعات، في تلك الفترة، أسماء مهمة مثل حميد البصري وكوكب حمزة وجعفر حسن وكمال السيد وسامي كمال.. وكل هذه الاسماء، وغيرها كثر، اضطرت الى مغادرة العراق في نهاية سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن المنصرم، خوفا من وقوعها بين فكي كماشة السلطة البعثية التي لا ترحم! بالمقابل كانت هناك أسماء يشار اليها بالبنان قبلت، مختارة أو مضطرة، العيش تحت خيمة النظام السابق، ومنهم من صمت، وفيهم من استمر بمسيرته ولكن بحذر شديد!
من هؤلاء الفنان الرائد عبد الوهاب الدايني الذي ذاق الأمرين على ايدي النظام السابق، بسبب نكتة! بل ودخل السجن وحكم عليه بالاعدام ثم خفضت العقوبة إلى السجن المؤبد ليطلق سراحه بعد عشر سنوات سجن لاقى فيها صنوفا من التعذيب والعذاب والإهانات والاذلال، لكنه لم ينكس رأسا فخرج مرفوع الهامة مثل نخلة عراقية باسقة!
فمن هو يا ترى عبد الوهاب الدايني؟!
انه الرجل الانيق في مختلف مراحله العمرية وفي مختلف اعماله، والذي ترك بصمته المتميزة في المسرح والتلفزيون. كان في الصف الثاني بمعهد الفنون الجميلة حين اختاره المخرج الراحل عبد الهادي مبارك لبطولة فيلم " عروس الفرات" عام 1957!
وهو من جيل قاسم محمد وعبد الله جواد وسعدون العبيدي وحميد محمد جواد وفاضل القزاز وخالد سعيد. وكان من الاوائل على أقرانه فأرسل ببعثة دراسية الى ايطاليا لدراسة السيناريو والاخراج في ستوديوهات "دينوديلاروش".
عمل في المسرح، وكان فاعلاً ومؤثراً في مرحلة أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي، حيث اخرج مجموعة من الاعمال المسرحية التي عرضت على خشبات "المسرح القومي" في كرادة مريم، و"مسرح بغداد"، والمركز الثقافي السوفيتي في أبي نؤاس، ومسرح الخيمة، وكان آخر أعماله مسرحية "الحفارة".
ثم انتقل إلى السينما والتلفزيون ليبرز ككاتب سيناريو ومخرج يشار له، تاركا مجموعة من السهرات التلفزيونية والسينمائية، ما زال ذكرها عالقا في أذهان الجمهور، رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على عرضها. فمن منا لا يتذكر تمثيلية " عبود يغني " التي أعدها عن الكاتب نجيب محفوظ، و"عبود لا يغني"، و"عبود هسّه شلونك"، وثلاثية "حضرة صاحب السعادة"، و"الصرخة "، و"اقوى من الحب "، عدا عدد كبير من المسلسلات والتمثيليات، التي يلامس في كل منها مشاكل المجتمع العراقي!
ان الحكومات المتحضرة تحترم رموز شعوبها، في مختلف الاختصاصات، وإن اختلفت معها سياسيا! فكيف لنا أن ننسى أو نتناسى فنانا بهذا الحجم مثل عبد الوهاب الدايني، الذي يفترض أن نراه مستشارا في هذه الوزارة أو تلك المؤسسة، أو أن نسمي باسمه هذا الاستوديو أو تلك القاعة المسرحية، وهذا أضعف الايمان، إن لم يكن في شارع أو ساحة. لنرتقي بأدائنا ونحترم رموزنا كي نثبت للآخر أننا دولة وشعب حضاريان على حد سواء!
الحضارة لا تأتي بالأقوال بل بالأفعال!