
ليس سرًّا أنَّ الوضعَ الصحيَّ في العراق يعاني من تدهورٍ ملحوظٍ وممنهجٍ. طوابيرُ الانتظارِ الطويلةُ، ونقصُ الأدويةِ الأساسية، وتردّي خدماتِ الطوارئ، إضافةً إلى المستشفياتِ المتهالكةِ والبيئةِ غيرِ الصحية، وهجرةِ الكفاءاتِ الطبيةِ بأعدادٍ مخيفةٍ، ليست سوى أعراضٍ سطحيةٍ لأزمةٍ عميقةِ الجذور. غالبًا ما يُلقى اللومُ على الأطباء أو الظروفِ الاقتصادية، متجاهلين التشخيصَ الحقيقيَّ للأزمة: السياساتُ الحكوميةُ الخاطئةُ والفاسدةُ التي قادت قطاعًا حيويًّا إلى حضيضِ التدهور، مفضِّلةً الإدارةَ البيروقراطيةَ للأزماتِ على التخطيطِ الاستراتيجيِّ لمنعها.
أولُ حلقاتِ التدهور
تبدأ الحلقةُ الأولى من هذه الأزمة من جذرها المالي. فالمبالغُ المخصَّصةُ للصحة في الموازنةِ العامةِ للدولة لا تتناسب مع حجمِ الاحتياجاتِ الفعلية للسكان. هذا القصورُ الماليُّ المزمن لا يترجم فقط إلى نقصٍ في الأسرّة والمستلزمات، بل يؤدي إلى تجميدِ التعيينات، وإهمالِ صيانةِ البنى التحتية التي أصبحت بعضُها أشبهَ بخرائب، في وقتٍ كان فيه العراقُ يمتلك منظومةً صحيةً تُعَدُّ ضمن الأكثر تطورًا في المنطقة.
كان العراق من أوائلِ الدول التي أسست كلياتِ طبٍّ مرموقةٍ ومستشفياتٍ تعليميةٍ ذاتِ سمعةٍ إقليميةٍ ودولية. إلا أنَّ السياساتِ الحكوميةَ في العقود الأخيرة، وخصوصًا في مجالِ التعليم العالي، عملت على تفريغِ الطبِّ من مضمونه الأكاديمي والإنساني. فاتجهت الوزاراتُ المعنيةُ إلى التوسعِ الكميِّ غيرِ المدروس، بفتح الكلياتِ الطبيةِ الأهليةِ في بيئةٍ تفتقر إلى المعايير الأكاديمية الصارمة. هذه السياسات أدّت إلى:
1. التوسع الكمي غير المدروس: تمت الموافقة على إنشاء عددٍ كبيرٍ من الكليات الطبية الأهلية في بيئةٍ تفتقر إلى المعايير الأكاديمية الصارمة.
2. إضعاف التعليم السريري والبحثي: حيث يتخرج آلافُ الطلبة دون تدريبٍ كافٍ في المستشفيات التعليمية، مما ينعكس سلبًا على كفاءتهم.
3. تفريغ الطب من رسالته الإنسانية: تآكلُ القيمِ والأخلاقِ الطبيةِ بين أوساطِ العديد من الخريجين، حيث أدى ضعفُ التأهيل الأكاديمي والإنساني إلى ممارساتٍ غيرِ مهنيةٍ، مثل انتهاكِ خصوصيةِ المرضى، وضعفِ التواصلِ معهم، والترويجِ للعلاج في العيادات الخاصة، وعدمِ المساواةِ في معاملةِ المرضى، ووصفِ أعدادٍ كبيرةٍ من الأدوية حتى وإن لم تكن الحاجةُ لها، والاتفاقاتِ غيرِ النزيهةِ للأطباء مع الصيدليات ومختبراتِ التحليل الطبي، ما يمثل خروجًا صارخًا عن المعايير الأساسية لمهنة الطب.
4. غياب تسعيرة رسمية وشفافة للأدوية أدى إلى فوضى عارمةٍ تجلّت في تفاوتٍ غير مبرَّرٍ في الأسعار، والتلاعبِ بالجودةِ والنوعية (مما يهدد سلامةَ المرضى)، وتفشي الفسادِ الذي يهيمن على قطاع استيراد المواد الدوائية والصيدلانية بأكمله.
5. ارتكاب الأطباء أخطاءً كبيرةً بعضها قاتلة، ولكنهم في معظم الأحيان ينجون من المحاسبة، ولم يُسمعْ إلى اليوم أنَّ طبيبًا مُنع من ممارسة مهنته أو تعرّض للمحاسبة القانونية.
ويرى الدكتور محمد العبيدي في مقالٍ له حول أزمة التعليم الطبي:
"إن بقاء التعليم التقليدي في كليات المجموعة الطبية على ما هو عليه الآن، والذي لا يتماشى إطلاقًا مع التطور الحاصل في هذا الجانب من التعليم، فإن التعليم الطبي في العراق سيبقى يسير من سيئٍ إلى أسوأ."
الخصخصة غير المنظمة
يقابل تقشّفُ القطاع الصحي الحكومي تساهلًا مريبًا مع القطاع الخاص، الذي تحوّل في كثيرٍ من الأحيان إلى سوقٍ للمضاربة على صحة المواطن. فسياساتُ الخصخصةِ غيرُ المنظمة أدّت إلى:
1. انتشار المستشفيات الأهلية: التي تقدم خدماتِها بأسعارٍ باهظة، دون رقابةٍ حقيقيةٍ على جودة خدماتها أو الالتزامِ بالأخلاقيات الطبية.
2. الإهمال المتعمد للمستشفيات الحكومية: التي تواصل معاناتها من نقصٍ حادٍّ في الأدوية، وتردي البنية التحتية، وهجرة الكفاءات الطبية المدربة.
3. غياب التخطيط الصحي الوطني: حيث لا توجد استراتيجيةٌ واضحةٌ لتوزيع المستشفيات أو الكوادر الطبية حسب الحاجة السكانية والفئوية.
ويشير الدكتور نشوان الطائي في "منتدى العراق للنخب والكفاءات" إلى أنَّ "القطاع الصحي الحكومي بات عاجزًا عن تقديم أبسط الخدمات، ما دفع المواطن إلى اللجوء للقطاع الخاص، رغم كلفته العالية."
غياب العدالة الصحية وتفاقم الأزمة
نتيجةً حتميةً لهذه السياسات المتخاذلة، برزت كوارثُ اجتماعيةٌ وصحيةٌ:
1. تفاقم الفجوة الطبقية: فأصبح العلاجُ الجيدُ حكرًا على القادرين ماديًا، بينما يعاني الفقراء من الإهمال والانتظار الطويل في المستشفيات الحكومية المتهالكة.
2. تراجع المؤشرات الصحية الوطنية: حيث تشهد معدلاتُ وفياتِ الأمهاتِ والأطفالِ انتشارًا متزايدًا، دون وجود أنظمةٍ فعالةٍ للمتابعة والرعاية.
3. هجرة العقول الطبية: تهرّب الكفاءاتُ الطبيةُ والأطباءُ الاختصاصيون إلى الخارج بحثًا عن بيئةِ عملٍ لائقة، مما خلق نقصًا حادًّا يزيد من عبءِ من تبقّى منهم ويُعمّق الأزمة.
رؤية للإصلاح
بناءً على هذا التحليل، فإنَّ إنقاذَ المنظومةِ الصحيةِ في العراق يتطلب إرادةً سياسيةً حقيقيةً وتبني حزمةٍ من الإصلاحاتِ الاستراتيجية، منها:
1. مكافحةُ الفساد في القطاعين الصحي والأكاديمي.
2. زيادةُ موازنةِ الصحة بشكلٍ جذري.
3. إعادةُ هيكلةِ التعليم الطبي وربطه بالمستشفيات التعليمية الحكومية.
4. وقفُ التوسعِ العشوائي في الكليات الأهلية.
5. إطلاقُ خطةٍ وطنيةٍ شاملةٍ لإعادة تأهيل المستشفيات الحكومية.
6. فرضُ رقابةٍ صارمةٍ على القطاع الخاص.
7. تأكيدُ الرعايةِ الصحيةِ المجانيةِ كحقٍّ دستوريٍّ أساسيٍّ للمواطن العراقي.
8. توفيرُ الحمايةِ اللازمةِ للأطباء من التدخلات العشائرية.
9. تأسيسُ صناديقَ دعمٍ متخصصةٍ لمساعدة المرضى ذوي الاحتياج الاقتصادي.
10. مكافحةُ الممارساتِ الاحتكارية وتضاربِ المصالح في قطاع الرعاية الصحية.
فالاستثمارُ في الصحة ليس تكلفةً، بل هو ركيزةٌ أساسيةٌ لأمنِ المجتمعِ العراقي واستقراره وتقدمه، وإحياءٌ لإرثٍ طبيٍّ كان العراقُ يفخر به.