للمرة الاولى في تاريخ العراق، تلجأ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الى منصات التواصل الاجتماعي لبث رسالة مصورة حول ما وصف بـ "منجزات حققها الوزير نعيم العبودي في التعليم العالي والجامعات العراقية"، في تزامن لافت مع بدء الحملة الانتخابية.

الادعاء بزيادة البحوث (الاوراق البحثية)

يدّعي الفيديو انه خلال فترة ترؤس الوزير للوزارة (منذ تشرين الاول 2022) شهدت نشر أكثر من 69 ألف بحث علمي عراقي (اي بمعدل 24 ألف بحث في السنة الواحدة).  في الحقيقة، هذا الرقم ليس مختلفا كثيرا عن عدد الأبحاث المنشورة في العام السابق للوزارة الحالية، والذي وصل الى أكثر من 20 ألف بحث. وكذلك، لم تكن الأرقام في السنوات التي سبقتها مختلفة بشكل كبير. لكن الملحوظ والمميز في هذه الفترة هو الارتفاع الكبير في النشر الزائف.  فالكثير من هذه الأبحاث (مع التحفظ على الأبحاث النزيهة) اما انها مسروقة، او من إنتاج "مصانع الأوراق" التجارية، او مقتبسة بشكل غير أمين، او حتى مزورة. ان وجود عدد كبير من الباحثين الذين ينشرون بمعدل 100 بحث سنويا وبضمنهم مسؤولين كبار في الوزارة، وتزايد أعدادهم بمرور الوقت، بالإضافة الى ازدياد عمليات سحب الأوراق من المجلات العلمية، يؤكد دور الأوراق المزورة في زيادة العدد الاجمالي. كما ان هذه الفترة تتميز بنشر ابحاث تفتقر الى التأثير العالمي والمجتمعي او الجودة البحثية المطلوبة، الامر الذي حال دون الاشارة الى الجودة في الفيديو، ربما لأنها قد تمثل "وصمة عار". الاهم من ذلك، لم يذكر الفيديو ان البحث العلمي لم يتلق اي دعم مالي مباشر من الوزارة، بل تحمل الباحثون تكاليفه بأنفسهم.

 زيادة الجامعات في تصنيف التايمز.. هل هو انجاز حقيقي؟

واشار الفيديو الى زيادة عدد الجامعات العراقية المدرجة في تصنيف التايمز للتعليم العالي. لكنه غفل عن حقيقة ان تصنيف التايمز يدرج كل جامعة تتقدم بطلب للاشتراك وتستوفي استمارة المشاركة. فالسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا اقتصر العدد على 27 جامعة فقط، وليس 100 جامعة على سبيل المثال؟ كما تجاهل الفيديو الاشارة الى ان ما يقارب 90% من جامعات العالم لا تشارك في هذا التصنيف من الاساس، وبالتالي لا يتم تصنيفها. علاوة على ذلك، تقع غالبية الجامعات العراقية المشاركة في مؤخرة التصنيفات، مما يشير الى إخفاق كبير حتى ضمن نطاق الجامعات المحدودة المشاركة.

المؤشر البيئي والتنموي.. سوء فهم للتصنيفات الدولية

ذكر في الفيديو ايضا ان العراق صعد الى المركز الاول عربيا في "المؤشر البيئي والتنموي" وفقا لتصنيف التايمز. وهنا يجب التوضيح انه لا يوجد مؤشر بيئي وتنموي شامل على مستوى الدول يصدر عن التايمز. لربما ما يقصد على الارجح هو تصنيف التايمز للتنمية المستدامة للجامعات، حيث صعد العراق الى المركز الاول عربيا من حيث عدد الجامعات المشاركة في هذا التصنيف. هذا يعني ان عددا كبيرا من الجامعات العراقية بادرت بتقديم بياناتها والمشاركة في هذا التصنيف الذي يقيم مساهمة الجامعات في تحقيق اهداف التنمية المستدامة. مع انها اختفت من تسلسل أفضل الجامعات العربية في التصنيف حيث تصدرت الجامعات السعودية والاماراتية والمصرية والقطرية ولم تتصدر أي جامعة عراقية قائمة الأداء، ما يشكل انتكاسة اضافية، فالإنجاز الحقيقي ليس بكثرة المشاركة، بل بتميز الأداء.

ارتفاع عدد الطلبة الاجانب (الدراسة المجانية).. جدلية الجودة والتأثير

تطرق الفيديو ايضا الى ارتفاع عدد الطلبة الاجانب الملتحقين بالجامعات العراقية ليصل الى 3000 طالب. وهذا يعود الى شروط قبول ميسرة، منها قبول معدل 85% لدراسة بكالوريوس طب الاسنان والصيدلة، و90% للطب البشري، مع منح دراسية مجانية. هذا التوجه يأتي على حساب اعداد الطلبة العراقيين الذين قد يجدون صعوبة في المنافسة، ويضع ضغطا هائلا على التدريسيين. فهل هذا ما يجب ان نفخر به كإنجاز في الوقت الذي يدفع كثير من العراقيين اجورا للحصول على مقاعد مماثلة في الجامعات الحكومية المفترض بها ان تكون مجانية، ام انه يثير تساؤلات حول جودة التعليم المقدم ومدى قدرة الجامعات على استيعاب هذا العدد دون المساس بمستوى الاداء الأكاديمي؟

تأسيس كلية التميز.. حل جذري ام تكتيك دعائي؟

بالنسبة لتأسيس كلية التميز كإنجاز يشير له الفيديو، يتبادر الى الذهن سؤال جوهري: الم تنجب جامعاتنا وكلياتنا القائمة، على امتداد عقود من الزمن، نخبة من العقول والكوادر المتميزة؟ ولمن تحديدا توجه هذه الكلية الوليدة خدماتها؟ هل هي نخبة مصطفاة، تنتزع انتزاعا من سياق تعليمي متهالك؟ وما الجدوى الحقيقية المرجوة منها؟ هل ستنتج هذه الكلية وظائف نوعية جديدة تتجاوز ما تعانيه الكليات الاخرى من تخمة في بعض التخصصات وشحّة في اخرى؟ الا يمثل هذا الاجراء، في جوهره، مجرد تكتيك دعائي فاشل اخر لتلميع صورة التعليم العالي الباهتة، دون الغوص في اعماق مشاكله المستعصية وتقديم حلول جذرية؟ والاسئلة تتوالى: اين البنايات الجديدة التي تليق بهذه الكلية الرائعة؟ اين المختبرات المتطورة؟ ما هي اختصاصات هذه الكلية؟ ام ان كل هذه "الانجازات" جاءت على حساب ما هو موجود، باقتطاع اجزاء من مبان قديمة وترحيل اثاث مهترئ في مسرحية ترقيع؟

اين المبررات الاكاديمية والعلمية التي تبرر لهذا الصرح المصطنع اسمه "التميز" ان يتفوق على بقية الكليات؟ ام ان الامر كله مجرد استعراض لأسماء وأسلاك تربط اساتذة من اقسام اخرى، ثم تغليف الفكرة بشعار براق على لافتة توحي بالعظمة، في حين ان الواقع ما هو الا فراغ تعليمي معاد تدويره؟

هل يعقل ان تتحول كلية مصطنعة الى جامعة من الهواء؟ جامعة لا سند لها سوى اسم "التميز" الغريب الذي يراد به ان يبعث رسالة ضمنية لكل طلبة الطب والهندسة وغيرهم: انكم ببساطة اقل تميزا، وربما اغبياء لاختياركم التخصصات "العادية"، بينما هنا في "التميز" تخلق العبقرية!

تضمين مادة "جرائم البعث".. اولويات المناهج التعليمية

اشار الفيديو الى ادراج مادة "جرائم البعث" في مناهج الكليات العراقية واعتماد تدريس كتب المراجع الدينية كإنجاز. هذا يثير تساؤلا حول الاولويات في صياغة المناهج: لماذا لم تدرج مقررات في "فلسفة المواطنة" او "المواطنة الصالحة" وتعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي وتطوير المهارات الشخصية والقيادية، او مادة لتدريس النزاهة ومكافحة الفساد، او مادة التفكير النقدي او حتى مادة عن الحرية الاكاديمية؟ ولماذا لم يتم اعتماد كتب أكاديمية متخصصة في مكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة وأخلاقيات المهنة، وكتب في علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع السياسي التي تتناول مفاهيم الهوية والصراع والتسامح وبناء السلام، ودراسات حالة (Case Studies) واقعية من العراق والعالم حول الفساد ونتائجه وجهود مكافحته وكتب الأدب والتاريخ العراقي التي تحتفي بالتنوع الثقافي وتبرز الوحدة الوطنية؟

ما يثير الاستغراب في رسالة الفيديو هو الغياب التام لأي اشارة الى انجازات تتعلق بجودة التعليم بحد ذاتها. لم يتطرق الفيديو الى خطوات عملية لرفع مستوى العملية التعليمية، او برامج تهدف الى ربط التخصصات الدراسية بحاجة سوق العمل ومتطلباته المتغيرة، ولا إلى أي برنامج إصلاحي حقيقي. وكأن التعليم نفسه أصبح تفصيلا ثانويا في مؤسسة تحولت تدريجيا الى دائرة امنية بامتياز، تمارس الابتزاز والتخويف بحق الأساتذة والموظفين والطلبة على حد سواء.

 أما الواقع الذي تجاهله الفيديو، فهو أكثر فجاجة من أن يخفى:

  • إهانة التدريسيين عبر تجاهل نتائج امتحاناتهم وتدخل الوزير في رفع درجات الطلبة الفاشلين.
  • التعيينات الولائية التي جعلت من منصب العميد ورئيس الجامعة مكافأة سياسية لا استحقاقا علميا.
  • فرض الاتاوات على الطلبة، حيث يبتزون بمبالغ مالية تسخر لخدمة جهات لا علاقة لها بالتعليم.
  • تحويل الوزارة إلى جهاز رقابي بوليسي، يراقب ويعاقب بدل ان يطور ويحفز.

كل ذلك غاب عن الفيديو، وكأن الرسالة المقصودة ليست تحسين التعليم، بل تحسين صورة السلطة. وهنا تكمن المأساة: حين يصبح الترويج اهم من الإصلاح، ويستبدل الحديث عن الرؤية التعليمية باستعراضات فارغة لا تعني شيئًا للطلبة ولا للأساتذة.

الاكثر اثارة للقلق هو تجاهل الفيديو الكامل لمطالب الهيئة التدريسية.  فبدلا من الالتفات الى حقوقهم واحتياجاتهم، او التركيز على برامج تدريب وتطوير مستمرة لتحسين مستوياتهم التعليمية والبحثية، خلا الفيديو من اي ذكر لهذه الجوانب الحيوية التي تمثل عماد اي تقدم في القطاع التعليمي.

عرض مقالات: