تمثل ثورة 14 تموز 1958 إحدى أهم المحطات الفارقة في التاريخ الحديث للعراق ففي ساعات الفجر الأولى من ذلك اليوم، أنهى الجيش العراقي النظام الملكي الذي استمر 37 عاما، معلنا قيام الجمهورية العراقية بقيادة اللواء الركن عبد الكريم قاسم. لم تكن تلك مجرد حركة انقلابية عسكرية، بل، زلزالا سياسيا واجتماعيا غير من ملامح العراق والمنطقة.
كان العراق، منذ تأسيسه كدولة حديثة عام 1921 تحت الانتداب البريطاني، يعيش في ظل النظام الملكي الهاشمي الذي ربط مصيره بالتحالف مع الغرب، لا سيما بريطانيا. وقد واجه النظام تحديات متكررة تمثلت في الاضطرابات الشعبية، التفاوت الطبقي، ضعف التنمية في الريف، وانعدام الحريات السياسية. ازدادت حدة التوترات في خمسينيات القرن الماضي، خصوصا ـ بعد توقيع العراق وتركيا وبريطانيا وإيران وباكستان حلف بغداد عام 1955، الذي فسر على أنه اصطفاف مباشر مع المصالح الغربية في ذروة الحرب الباردة، مما أثار معارضة شعبية واسعة بين صفوف اليساريين والقوميين والعسكريين.
في 14 تموز 1958، قاد عبد الكريم قاسم، بمعية مجموعة من الضباط تحت لواء ما سمي بـ "تنظيم الضباط الأحرار"، للسيطرة على العاصمة بغداد وإسقاط النظام الملكي. تم الهجوم على القصر الملكي. وفي بيان إذاعي شهير، أعلن قيام الجمهورية العراقية، وبدء عهد جديد.
رفعت الثورة شعارات التغيير الاجتماعي والتحرر الوطني ونجحت في تحقيق عدد من التحولات الهامة، من أبرزها: إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية. التحرر من التبعية الأجنبية، وخصوصا ـ لبريطانيا. الخروج من حلف بغداد وتبني سياسة عدم الانحياز. تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة بشكل عادل. التوسع في التعليم والصحة بشكل كبير. تقوية الصناعات الوطنية وتقييد نفوذ الشركات الأجنبية. تحسين أوضاع الفلاحين عبر إصدار قانون الإصلاح الزراعي الذي أعاد توزيع الأراضي على الفلاحين. إطلاق الحريات العامة وحقوق المرأة والطفولة، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية.
لكن بالمقابل، واجه النظام الجديد صراعات داخلية خطيرة بين التيارات القومية الشعبوية واليسارية، وتفاقمت الخلافات بين قيادات الثورة العسكريين، لا سيما قاسم وعبد السلام عارف. كما فشل النظام في بناء مؤسسات ديمقراطية راسخة، وظل الحكم محصورا في يد النخبة العسكرية.
تعد ثورة 14 تموز لحظة فاصلة في تاريخ العراق، فهي أول تجربة للجمهورية، وأول محاولة لتقويض البنية الإقطاعية الاستعمارية. ومع ذلك، فإن تقييم إرثها يظل منقسما: هناك من يراها ثورة وطنية تقدمية أعادت الكرامة للعراقيين. وهناك من يراها بداية الاضطراب السياسي والعنف والانقلابات المتعاقبة. في كلتا الحالتين، لا يمكن إنكار أن ما حدث في فجر 14 تموز 1958 قد فتح صفحة جديدة في التاريخ العراقي، غيرت موازين القوى الداخلية والإقليمية...
في الذكرى الـ 67، يجد العراقيون أنفسهم أمام إرث معقد، تتداخل فيه اللحظة الثورية مع تداعياتها الطويلة. فبينما يعيش العراق اليوم تحديات سياسية واقتصادية وأمنية، فإن استذكار ثورة تموز يظل مناسبة لإعادة تقييم العلاقة بين السلطة والشعب، بين الدولة والمجتمع، وبين طموحات التحرر ومخاطر الاستبداد. لكن من المؤكد بين تموز الأمس وعراق اليوم من حيث لحظة التحول الكبرى ـ في السياق السياسي والاجتماعي: مفارقات الثورة والدولة. كان 14 تموز، يوما للخلاص، بقدر ما كان بداية لسؤال مفتوح: كيف نبني دولة عادلة، حديثة، مستقلة؟
أما واقع العراق المعاصر من حيث ما أنجزته ثورة 14 تموز 1958 خلال سنوات حكمها القصيرة، وبين ما يمر به العراق اليوم من أزمات بنيوية وأحداث أخرت تطور العراق، في ظل تعثر التنمية وتفشي الفساد وتراجع الحريات، بالمطلق، ليس هناك أوجه للمقارنة. وفيما يطل الماضي على الحاضر بسؤال مؤلم: ما الذي تحقق للعراقيين بعد كل تلك التضحيات؟ وهل بات العراق اليوم أفضل حالا مما كان عليه قبل عقود من التغيير والانقلابات والحروب والاحتلال؟ لا شك أن الموازنة بين حقبة ما بعد الثورة وما يشهده العراق المعاصر من أزمات عميقة، تكشف عن مفارقة تاريخية لافتة.
عراق اليوم، دولة غنية، لكنها تعاني من الفقر والفساد. فمنذ الغزو الأميركي في عام 2003، دخل العراق مرحلة عنوانها ظاهريا "التحول الديمقراطي" الهش، لكنه سرعان ما تعثر في مستنقعات الطائفية والفساد وغياب الرؤية الوطنية. ومن أبرز مفارقات الواقع العراقي المعاصر: الفساد المؤسساتي، إذ يعتبر العراق اليوم من بين الدول الأعلى في مؤشرات الفساد المالي والإداري، بحسب منظمة الشفافية الدولية. مئات المليارات من الدولارات أهدرت أو سرقت منذ 2003، دون محاسبة تذكر. شلل مؤسسات الدولة، والمحاصصة الطائفية والاثنية لها أثرها في تعطيل بناء المؤسسات الفعالة.
خاتمة: رغم كل ما يمكن أن يقال عن أخطاء ثورة تموز، فإنها كانت، في جوهرها، حركة نهضوية امتلكت رؤية واضحة لبناء وطن مستقل ومتوازن اجتماعي. أما اليوم، فإن العراق يقف، رغم الموارد الهائلة، على مفترق طرق خطير، بلا مشروع وطني جامع، وبلا قيادة قادرة على كسر حلقة الفساد والتبعية. قد تكون الموازنة بين الماضي والحاضر غير عادلة في بعض جوانبها بسبب اختلاف السياقات، لكن الشعوب تقيس التجارب بالنتائج. ووفق هذه المعادلة، فإن ما تحقق في بضع سنوات بعد 1958 يبدو أكثر رسوخا مما تحقق في أكثر من عقدين لما بعد 2003...