حين يعلو هدير المصانع فوق صخب الخيانات،

وحين تفوح رائحة العرق في الميادين أكثر من رائحة العطور في الصالونات،

نعرف أن التاريخ لم يُكتب بعد، وأن معركتنا لم تنته.

في عالمٍ يعاد تقسيمه كل صباح بين بورصة النفط وأمراء الطوائف، تبقى اليد العاملة وحدها تحمل هشيم الأيام، وتصنع، رغم الإهانة، خبز الغد.

 في العالم طبقتان:

من يصنع الخبز… ومن يلتهمه بشراهة وينظّر لآداب الطاولة.

 ولأن الكرامة لا تنبت في الصالونات، ولأن التاريخ لا يُكتب بالحبر الرسمي، كان لا بد من أن نضع أصابعنا — نحن أبناء الحقول والمصانع والضواحي المنسية — على الجرح، لا لنعدّه، بل لنتأكد أن القيح لم يتحول بعد إلى سياسة دولة.

 ⸻

 الأول من أيار ليس “يومًا” في الرزنامة، بل شتيمة في وجه كل سلطة جعلت من الخبز امتيازًا، ومن العمل عقوبة، ومن النقابة تابوتًا.

هو لا يُحتفَل به، بل يُرتكب.

يُرتكب كما تُرتكب الجرائم الجميلة:

أن تكتب بيانًا يشبه العرق، أن تهتف لا لأنك تُجيد الهتاف، بل لأنك سقطتَ كثيرًا، وقررتَ أن تقوم دون أن تعتذر.

 في بيان الحزب الشيوعي العراقي، هذا العام،

ما يُشبه النفس الأخير الذي يخرج من فم عامل محاصر،

وما يُشبه اليد التي لا تزال ممدودة، لا لتستجدي، بل لتزيح الغبار عن الراية القديمة:

راية «يا عمال العالم اتحدوا» … وقد بللتها الخيانات مرارًا.

 لكن، ها هو البيان يعود، لا كمناسبة، بل كتهمة.

تهمة ضد الذين باعوا المصانع، وورثوا النقابات كما تورث المزارع،

ضد الذين استبدلوا الشعارات بالمنح، والمنابر بمقاعد في مجالس الإدارة،

ضد الذين يكتبون تقارير “الإنتاجية” فيما دم العامل لا يزال على أرضية الورشة.

 حين ينهار المصنع، ولا يُسأل عن انهياره أحد،

وحين يغدو الإضراب جريمة، والمطالبة بالحق تمرينًا على السجن،

نعرف أن الزمن الذي يخص الفقراء ما زال مؤجلاً، وأن الأول من أيار ليس احتفالًا، بل صرخة معلقة فوق كل رأس منكسر.

 ⸻

 هل تسمعونه؟

صوت مظفر النواب، يصرخ من قاع الروح:

 «ما أظنُّ أرضًا رُويت بالدمِ والشمسِ كأرض بلادي… ولكنها بلادي.»

 بلاده التي يبيعونها الآن على أقساط،

ويشترون بها صمت الفقراء بوجبة باردة وموعظة مزيّفة.

 في هذا البيان، تستعيد الطبقة العاملة صوتها.

لكن الصوت لا يكفي، ما لم يصرخ.

 والصرخة لا تكفي، ما لم تُربك القاتل.

 فالأنظمة التي تعتاش على الاستلاب لا تسقط تحت وقع الشكوى،

بل تحت وقع القبضة التي تتعلم، أخيرًا، أن السماء لا تمطر خبزًا، ولا الحرية تأتي مع التصويت الورقي.

 ⸻

 من سنار إلى بغداد، من عطبرة إلى البصرة،

لم تكن المسألة يومًا زيادة أجور، بل استعادة صوت،

لم يكن النضال خُبزًا فحسب، بل لغة جديدة تُكتب بالحطب،

لغة لا تمر عبر البرلمانات، بل عبر الحناجر المُشققة.

 وحين يقول البيان «لا كرامة بلا عدالة ولا عدالة بلا تنظيم»،

فإنه لا يعظ، بل يضع خارطة:

خارطة الذين لم يركعوا، والذين لن يغفروا لهذا النظام الطبقي ما فعله بعظامهم.

 تلك الخارطة التي رسمتها الأيدي السودانية والأنامل العراقية،

حين كانت النقابة وطنًا صغيرًا، والشارع مكتبة مفتوحة للذين يعرفون أن الطريق إلى الكرامة يمر دائمًا عبر دموع الأمهات.

 ⸻

 في الأول من أيار، نُذكّر لا لنُحتفل،

بل لنقول: لسنا أبناء الصمت، ولا أبناء الرغيف الحلال فقط،

نحن أبناء السواعد التي بنت العالم، ثم جرى تجريدها من اسمها لصالح “الاقتصاد الحر”.

أبناء الأمهات اللائي بكين أولادهن ليس في الحرب، بل في المصانع التي لا يعود منها أحد منتصرًا.

 وفي كل دمعة سالت من أمّ فقيرة،

وفي كل قميصٍ ملطخ بزيت الماكينات،

وفي كل صرخة معلقة فوق باب مصنع مهجور،

يتجدد سؤال الأول من أيار:

هل الخبز وحده يكفي، أم أن الحرية جزء من المائدة المنهوبة أيضًا؟

 ⸻

 التحية للبيان الذي لم يخن لغته،

وللحزب الذي، رغم العزلة، ما زال يُجيد تسمية العدو.

وللذين في العراق… في السودان…

ما زالوا يرفعون التراب إلى شفاههم، لا ليأكلوه، بل ليعرفوا إن كان هذا ما تبقى من الوطن.

 لأولئك الذين، رغم الهزيمة الطويلة، ما زالوا يصرون أن للتراب رائحة لا يفهمها السماسرة،

وأن للأرض ذاكرة تحفظ من حرثها ومن خانها.

 عاش الأول من أيار.

وليعش كل مَن آمن أن الكرامة لا تُؤخذ على دفعات.

 ولتسقط كل يد تكتب القوانين بلغة السوق وتنسى أن اليد التي تحفر الأرض أسبق من كل الدساتير.

 

عرض مقالات: