في تصريح متجدد لمحافظ البنك المركزي العراقي علي العلاق ليوم 22/9/2024، يطرح مرة اخرى مسالة مشروع دراسة حذف اصفار عن الدينار العراقي الذي يحظى بمراجعة ودراسة مستمرة، وذلك بهدف: إعادة تقويم العملة الوطنية، وتبسيط وتسهيل التعاملات المالية والعمليات المحاسبية، ومكافحة التضخم الذي يعاني منها الدينار، والذي أصبح غير عملي ومعروض بكميات كبيرة في التعاملات اليومية. ويمكن أن يساهم هذا الإجراء في تعزيز الثقة بالعملة الوطنية، وامام المستثمرين والمجتمع الدولي. سبق وأن تعرض الدينار الى زيادة اصفاره، نتيجة فرض الحصار الاقتصادي على العراق، بسبب غزو الكويت عام 1990.

ومن جهة أخرى ان تنفيذ هذا المشروع يكلف اموال، وتشمل: طباعة عملات جديدة، وتعديل الأنظمة المحاسبية والتشريعات المالية، والتعويد على استخدام العملة الجديدة في التداول، وقد يؤدي ايضاً الى عدم استقرار الاقتصاد ويصعب التنبؤ بمستقبله. فعليه إن إقدام على تنفيذ هذا المشروع بجوانبه الإيجابية والسلبية، ليس حلاً لجميع المشكلات الاقتصادية الذي يعاني منه العراق، مما يتطلب ذلك الى دراسة

وتخطيط وتنفيذ جيدة لتحقيق الأهداف المرجوة قبل اتخاذ القرار.

أقدمت على هذا الإجراء كثير من الدول العالم، بلغت أكثر من 70 تجربة منذ عام 1960 لغاية عام 2005، ولأسباب مختلفة، منها: الصراعات الداخلية، التضخم الاقتصادي المفرط، ضمان الاستقرار الاقتصادي الكلي وكفاءة نظم المدفوعات. على سبيل المثال: تركيا حذفت ستة اصفار من عملتها في عام 2005، وفنزويلا حذفت خمسة اصفار عام 2008، وزيمبابوي حذفت اثني عشر صفراً في عام 2009، وغيرها من الدول، بهدف إعادة تقويم العملة الوطنية وتبسيط التعاملات المالية. هناك آراء مؤيدة ومعارضة لعملية رفع الاصفار، تعتمد على ظروف كل بلد.

يشير حذف الأصفار عن العملة إلى عملية إزالة عدد محدود من الاصفار من القيمة الاسمية للعملة. فمثلا ان القيمة الورقية النقدية من فئة ألف 1000 دينار، عند حذف ثلاثة اصفار منها، سيتم استبدالها بورقة قيمتها دينار واحد من العملة الجديدة. عادة تلجأ الدول الى هذا الاجراء، عندما يعاني اقتصادها من التضخم المفرط، نتيجة فقدان القيمة الاسمية لعملتها مما يصعب استخدامها في المعاملات اليومية.

أن حذف الاصفار لا يوثر على القيمة الفعلية للأموال الموجودة بحوزة الناس، وهذا يعني ان العملة الجديدة لا يرافقها تغيير في القوة الشرائية، وانما تساهم في سهولة عمليات التجارية والمعاملات المالية للأفراد والشركات، بدلا من التعامل مع أرقام ضخمة. كما ان هذا الإجراء يساعد أيضا في اصدار عملات صغيرة معدنية، تساعد على تسعير السلع الصغيرة بأسعار اقل، ويسهل تداولها في الأسواق، واستعادة الثقة بالعملة المحلية بين السكان والمستثمرين، وتزيد من قدرتها التنافسية مع العملات الأجنبية، مع اخذ بنظر الاعتبار مسالة سعر صرف الدينار مقابل العملات الأجنبية. يجب ان يقترن هذا الاجراء بإصلاحات اقتصادية أوسع فمثلاً رفع معدلات الفائدة على الودائع المصرفية، لتحفيز الناس على الادخار في البنوك، مما يساعد على سحب السيولة النقدية الزائدة عن التداول، وتأثير ذلك على انخفاض

مستوى الاستهلاك، ومن ثم تراجع في أسعار السلع، مما يساعد على تخفيف حدة التضخم. كذلك ممكن الاستفادة من أموال الودائع في البنوك في مجال الاستثمارات في المشاريع الإنتاجية للمستثمرين المحليين والأجانب، وخلق فرص العمل والقيمة المضافة للموجودات.

إن إقدام على هذه العملية المعقدة يتطلب توفير مجموعة من الشروط والعوامل ذات تأثير إيجابي التي تساهم في تعزيز واستدامة الاقتصاد، أي بحاجة الي حزمة من الإصلاحات الضرورية على الصعيدين السياسي والنظام الاقتصادي الحالي. وباختصار شديد (من دون الدخول في التفاصيل)، نرى من الضروري إجراء بعض الإصلاحات بهذا الصدد، وكالاتي:

ـ يجب ان يكون هناك تنسيق جيد بين الإدارات والمؤسسات المسؤولة عن السياسات: النقدية، والمالية،

والاستثمارية، وميزان المدفوعات. أي بمعنى اخر العمل المشترك بين: وزارة التخطيط المسؤولة عن

المشاريع الإنتاجية والخدمية، ووزارة المالية المسؤولة عن الموازنة العامة، ووزارة التجارة عن ميزانية

المدفوعات، والبنك المركزي المسؤول عن السياسة النقدية.

ـ هناك خلل بنيوي واضح في مفاصيل الاقتصاد، الذي أعتمد على الأحادية والريعية الاقتصادية. وانعكاس ذلك على هيكلية الموازنة العامة للدولة في توزيع الإيرادات النفطية، التي تساهم بنسبة 91٪ من إجمالي الإيرادات الفعلية، مقسمة بين الانفاق الجاري والاستثماري لصالح الأول، وانعكاس ذلك أيضا في إعتماد تركيب بنية الناتج المحلي الإجمالي على المساهمة النفط بين (40 - 50)٪ بالمائة، كذلك شكلت صادرات النفط نسبة 94٪ من الصادرات، في الوقت الذي يبرز تدني ملحوظ في مساهمة القطاعات الإنتاجية وايرادات غير النفطية من: ضرائب مباشرة وغير مباشرة وغيرها من إيرادات غير النفطية في: الموازنة العامة، والناتج المحلي الإجمالي، وصادرات السلع أخرى.

ـ الاعتماد على التنويع الاقتصادي في الناتج المحلي الإجمالي من خلال تفعيل دور القطاع الإنتاجي، منها: الاهتمام بالصناعات التحويلية وزيادة نسبتها، زيادة اسهام القطاع الزراعي، وزيادة اسهام القطاع الصناعي وغيرها من القطاعات الإنتاجية، ومن خلال تقليل الاعتماد على القطاع النفطي، كما هو عليه الان، بهدف اجراء تحولات اقتصادية وهيكلية في الاقتصاد الحالي الريعي.

ـ إتباع الحوكمة في الادارة والسياسة المالية الرشيدة في اعداد الموازنات الاتحادية، وفق الأهداف والبرامج، تعتمد على قياس كفاءة الأداء والإنتاجية، والتحكم بشكل عقلاني بالموارد المالية المتاحة، في خدمة عملية التنمية المستدامة.

ـ الحد من سياسة الاستيراد المفتوح والاقتصار على ما هو ضروري من المنتجات والسلع المختلفة

المطلوبة: للإنتاج، والاستثمار، والاستهلاك، والمستلزمات الوسطية للقطاعات الإنتاجية، تشجيع

ودعم الإنتاج الوطني منها، بهدف توفير العملات الأجنبية، وتحسين وضع ميزان المدفوعات لصالح

الصادرات.

ختاماً، إن إقدام على تنفيذ هذا المشروع يتطلب دراسة دقيقة ومهنية، على ان يؤخذ بنظر

الاعتبار كل عوامل الإيجابية والسلبية من النواحي: الفنية، والقانونية، والاقتصادية، والحالة هذه

تقتضي قيل كل شيء اجراء إصلاحات جوهرية في النظام الاقتصادي الحالي على سياسات: المالية

العامة، النقدية، تحفيز القطاعات الإنتاجية، وبناء اقتصاد متنوع، ومكافحة الفساد المالي والاداري

المستشري على المستويات الإدارية والسياسية، والحد من ظاهرة غسيل الأموال، من خلال ضبط المعاملات التجارية الداخلية والخارجية، وتامين الامن والاستقرار في البلاد. ففي حالة اتفاق على الحذف، يجب اخذ بنظر الاعتبار طباعة جيدة للعملة الجديدة في مطابع رصينة، والتي تكلف أموالاً على الدولة، حيث ان طباعة الدينار العراقي في تسعينيات القرن الماضي، جرت في مطابع سيئة.

عرض مقالات: