قبل عقدٍ ونيف من الزمن وضمن حوار أدبي لصالح صحيفة عراقية سألني الصحفي عن مغزى ان يكون المرءُ شاعراً وكيف تكون حياة الشاعر في بلد كثير الاحداث والتغييرات كالعراق!

اجبـتُه حينها (إن مَنْ لا يكتب عن هموم الناس لا يستحق ان يكون أديبا)

لأجد هذه التفصيلة البسيطة قد شغلتْ حيزاً كبيراً في قلوب القراء فالناس بطبيعتها تبحثُ عمّن يراعي شعورها وينظر آلامها ويضعُ بعين الاعتبار همومها.

كل الناس على اختلاف مشاربهم تستهويهم فكرة ان الطرف المقابل يعي ما يمرون به ويعرفُ جيداً كيف يرممُ عناءهم ويشعرُ بما يشعرون به فيترجمهُ الى كلام قد تخلّـدهُ السنوات فيريحهم من عبء الأحاديث المطولة. وانا ككل الناس كنتُ ومازلتُ انشدُ في صحبتي مَن يراعي ذلك وان لا يضجرهم كون زميلتهم بالعمل او السفر شاعرة وصحفية لها مآرب وطقوس قد لا تشبه ما عرفوه بين أقرانهم لكن الحياة الواقعية أكثر قساوة واشد عناداً حين نحاول أن نتعامل بما هو جيد وصواب وبما أحببنا أن نرثه من سلوكيات عهدنا عليها أسلافنا كالتواضع وعدم التنمر وكذلك نشر المساواة إن غاب العدل، فنصاب بخيبة أملٍ ننزوي على إثرها ونرفض الاستمرار لكننا نعود وبقوة.

وبعد مرور أكثر من عقدين على تغيير شكل نظام الحكم في العراق وانتشار مختلف وسائل الإعلام وتنوع فرص الحصول على التعليم والمعلومات كذلك النشر المباح بلا رقيب للأسف، أجد ان النفس العنصري والتمييز الطبقي انتشر ايضاً وبقوة في كل المجالات، وما زاد الطين بلة ان بعض الاباء يورثون ابناءهم الأمكنة والمناصب وحتى الكرسي الثقافي ويسعى جاهداُ ان يلغي الآخر لأنه لم يأتِ من كوكب الوراثة والمحسوبية.

  بل وجدت الكثير ممن عانوا في الحقبتين مازالوا يخوضون صراعاً مريراً من أجل الحفاظ على المكتسبات التي حصلوا عليها بجهد وعناء وبلا واسطة الأمر الذي يستكثره عليهم أبناء هؤلاء وأحفاد اولئك واشقاء اللواتي والذين، لدرجة السؤال المقيت " كيف ولجت هذا العالم"؟

 وكأنه غازٍ استحوذ على موطنهم، بل يضجرهم حين ينتفض الإنسان البسيط - حسب وصفهم - مطالباً بحقه ويصفونه بالفوضوي وحجر عثرة أمام عجلة التمدن والرُقي التي أوقفت نمو ناطحات السحاب بوجود هذا المنتفض!

 في مواقف كثيرة نجد أن بعض الناس حين تعييه الأمور ولا تنصفه السلطات وتعجزه الصعاب فلا يجد ناصرا، يطرق باب أهله وعشيرته فيستكثرون عليه هذا الأمر ويصفونه بالرجعي والهمجي فهو عكر صفو التحضر الذي يعيشون فيه وأزعج المجرة التي ينتمون اليها.

 إن قوانين الطبيعة تقول إن لكل فعل له ردة فعل ..فعندما تذم انساناً وتتنمر عليه وتنتقد طقوسه فتنسبه بالجهل والتخلف وتنعتهُ بألقاب قبيحة  لأنه ليس ابناً  او أخاً لفلان، تحرمه حقه بالكلام ولا توفر له حماية  ولا تقتنع بموقفهِ مهما كانت درجة الاحقية، تحجّمه وتحاربه ولا تقبل منه أية بادرة تثبت انه مثلك تماما وربما افضل حسباً ونسباً وعملاً  وله ما لكَ في هذا الوطن الكبير بل تسعى جاهدا ان تفرض عليه وبالقوة  غير المنصفة  ما لا يقبله منطق ولا قانون ..هنا  ينتفض الانسان  - البسيط - ويثور ويبحث عن أقرب وسيلة حماية تحفظ حقه وماء وجهه او تحفظ حياته في مجتمع تسود فيه لغة القوة و  التفرقة والمحسوبية.  

المفكرون الغرب يقولون إن لكل انسان الحق في الحصول على جهة أمنه واحدة على الأقل في حياته والقران يقول " سنشد عضدك بأخيك".

  فإذا كانت السلطات العليا والأقل فالأقل تفكر في كيفية استثمار الناس ثم تهميشهم فيما بعد او جعلهم يدورون في دوامة حين يطلبون شيئا من حقهم ورميهم في دائرة سوء الظن دائما، حتما ستجدهم    يلجؤون إلى جهة اخرى توفر لهم ابسط مقومات الحماية من سطوتك فيتحول ظلمك الى قلق وحيرة. 

التنمر والنظرة الفوقية تجاه طبقة كبيرة من الشعب وخاصة أبناء محافظات معينة ونعت عاداتهم ويومياتهم بأنها (قذرة) وتذمرك الدائم من وجوههم التي غزت المدن الافلاطونية التي ما رأيتها يوماً على مدى أربعة عقود من عمري بل نسب إليهم كل فشل وقعت فيه السلطات منذ الأزل الى يومنا هذا سببه ضعف القانون والتمييز الطبقي وعدم وجود رادع وقانون يجرم هكذا أفعال بتهمة السخرية والطائفية والعرقية او غيرها وليتحمل كل قوم نتيجة افعالهم.

لي أقرباء مسالمون يسكنون مدنا مكتظة - او فوضى – كما يسميها البعض لكنهم لم يتذمروا يوما ولم يذكروا انهم تعرضوا لمضايقات وانا أيضا لست بعيده عن هكذا طقوس لكنني اسعى لتحفيز الناس لما هم قادرون على فعله بالطرق السليمة رغم خيبة الامل التي اشعر بها واياهم وافهم جيداً ما سيلاقونه لكنه الامل وشرف المحاولة.  

  يجهل البعض أن العراق ودول اخرى منذ كينونة الأرض عبارة عن تجمعات بشرية تجمعها القبيلة لولا هيمنة القوانين التي سنها الحكام منذ حمورابي ولذلك نطالب ان يكون شغل الدولة الشاغل هو سيادة القانون وتقليل مدى المحسوبية والواسطات والنظر للمواطنين على أنهم متساوون بالحقوق والواجبات وان لا يضطر المواطن ان يطرق بابا غير الابواب القانونية وهم مطمئنون على أنفسهم وممتلكاتهم وشؤونهم الوظيفية اقلها من باب المساواة فالعدل صار حلماً. 

عرض مقالات: