تعتبر مسألة الحرية وبحق من أدق واخطر المسائل التي حظيت بالبحث والدراسة قديما وحديثا. فقديما، عدت من أعقد المشكلات الفلسفية، وأشدها استعصاءا، إذ واجهت الباحثين والمفكرين من قديم الزمان، وعاصرت الفكر الإنساني وسايرته ابتداءً من عهد فلاسفة الإغريق القدامى وحتى عصرنا الحاضر، الأمر الذي أدى إلى تشعب الأفكار واختلاف الآراء حولها اختلافاً عظيماً، لم يحدث له مثيل في أي مفهوم آخر.
إذ يجب أن تنتهي حرية الفرد حيث تبدأ حريات الآخرين، وهذا لكي يتمكن الجميع من اقتسام الحق والحرية اللازمين للمعيشة المشتركة في مجتمع واحد.أن تميز الإنسان عن سائر المخلوقات بالإرادة والقصد، باعتباره مكلفا مسؤولا، لا يتحقق إلا في جو من الحرية الكاملة الواعية، المسؤولة، المنضبطة، التي لا تخل بمبادئ المجتمع العامة كما لا تتعدى على حريات الآخرين. وبهذا التصور تظهر الحرية في الإسلام، كما عبر عنها البعض كضرورة إلهية وإنسانية وطبيعية فهي ضرورة إلهية لأن الإنسان مخاطب بالأحكام الشرعية، والتشريع قائم على التكليف، والتكليف يفترض الحرية. وأما كونها ضرورة إنسانية فلأنها من مقومات العمل الإنساني والاجتماعي والبشري. فالتكليف وتحمل المسؤولية تجاه المجتمع، وبالتالي الجزاء والمحاسبة على الأعمال، تكون لغوا ولا معنى لها إذا لم ترتكز على الحرية، فحيث لا حرية فلا مسؤولية. أما كون الحرية ضرورة طبيعية فلأن الفرد يحس حريته واستقلاله الذاتي عن غيره إحساسا طبيعيا، ينسجم مع إحساسه بتميزه الذاتي، وهذا يناسب نظرة المجتمع باعتباره فردا مستقلا حرا مكلفا. فاذا تعرَّضَ اي إنسان أو مجتمع الى ظلم وسَحِق لفترات غير قصيرة فأنه يفقد آدميته كإنسان وتتساوى لديه الحياة مع الموت لا يملك اي طموح , وهذا يؤثِّر على علاقاته مع اسرته مع محيطه ومجتمعه.ونتيجة عدم وصول الكِتاب والمحاضرات التثقيفية يُصاب المجتمع بالخواء الفكري والجمود,ويُمارس الحاكم أعماله ويُأُصِّل سيطرته وطغيانه,وهو يحقق استقراراً في المجتمع قائماً على الظلم، لكن الذي يُعرِّي ظُلمه ما يتعرَّض له الشعب من ألإبادة لأنه يكشف حقيقة الظالم أمام الناس. أي أن تعريف الحاكم المستبد للفتنة يتعلق بتعريته وتعرية ممارساته الظالمة أمام الناس، ونجد من يصفق لهذا الحاكم من المستفيدين من ظلمه.والفاسد الذي يكشف الفساد ويثير وعي الناس حول هذا الفساد الذي يتغذى على مصالحهم، أما الحاكم الفاسد فهو المُعَلم الأول والقائد والرمز والبطل. والذي يثير الفتنة والإذلال هو الذي يتجاوز القوانين ولا يطبقها، وفي الممارسة العملية المجرم هو من يطالب بتطبيق القانون، وهو الذي يُطالب بإقامة العدالة الاجتماعية والذي يرفض التعامل مع العدو وتقديم الخدمات له!. ووراء مظاهر الحرية والليبرالية لا زالت آلية الضبط والقمع البوليسية السياسية بفاعليتها. تعمل بصمت وتَكتُّم فاعل مع القلة القليلة التي تُشكِّل عقبة أمام سطوة الاستبداد … علوم الأمن والمخابرات وتجهيزاتها هي الأكثر تقدما في عالم القهر…أما علم الغيب، ونقصد به استغلال الدين وسيطرة رجاله على التحكم بالغيب ، تفسيراً وتأويلاً واحتكارهم لهذه السلطة المعرفية من اجل ترويض الناس من خلال كل آليات التحريم والتحليل المعروفة.التحريم والتجريم لا يبقيان للفكر من معرفة ممكنة إلًا عِلم تدبير الحال، إما بالتحايل والإخفاء والتمويه والمداهنة للسلطات تجنباً لغضبها ونقمتها، او بالتوقف والتودد والمزايدة طلباً لرضاها. وهناك تحالفاً رهيباً ما بين الاستبداد والقمع الاجتماعي وبين الكبت النفسي, فالإثنان وجهان يتبادلان التعزيز لعملية الهدر ولهذا فإن عملية التحرير من براثن الاستبداد لا تكفي وحدها للخلاص ، بل لا بد من عملية تحرر ذاتي تواكبها؛ وإلاّ فإن ما يحدث سيكون عبارة عن استبدال استبداد بآخر، وقمع بآخر.
أن التوازن السياسي لا يتحقق في المجتمع، ولن تظهر آثاره على أرض الواقع، إلا في ظل نظام قانوني عادل، يضمن للمحكومين حرية اختيار أحسن الحاكمين بإرادتهم الحرة المعبرة، والعارية عن أي شكل من أشكال الضغط والإكراه، والخالية من أي لون من ألوان الغش، والتزوير، مهما كان نوعه، وكيفما كان مصدره ودواعيه. وبغير سلوك هذا الطريق، فإن الأمور ستؤدي حتما إلى فقد الثقة بين الحاكم والمحكوم، وبالتالي زعزعة قيمة الحرية، بمعناها الإنساني الشامل، وعودة الصراع من جديد، بمعناه السياسي، وذلك كنتيجة طبيعية ورد فعل معاكس للقهر السياسي الذي تمتهن بسببه حريات الفرد وحقوقه، وتصادر فيه إرادته، وما ينتج عن كل ذلك من استغلال واستبداد اقتصادي واجتماعي لأفراد الجماعة، وكثرة الشواهد التاريخية ماضيا وحاضرا، خير دليل على تأكيد هذا التحليل، سواءً منها ما كان مطبقا، تحت ظل السلطان الكنسي والملكيات المطلقة في أوروبا قديما، أو كما هو الحال، حديثا، في ظل النظم السياسية الدكتاتورية، التي تمنع الفرد من حرية نقدها والخروج عن منهجها، وتنكر عليه التمتع بممارسة حقوقه وحرياته السياسية بصورة فعلية.
القضية في الحقيقة ليست ثنائية الدولة والمجتمع ولكننـا ننـاقش قـضية المدنية والتمدين، وقضية ألاّ تتغول الدولة حتى لا تنفي المجتمـع فقـط ولكـن ألاّ تدمره تدميراً منظماً فلا يبقى هناك نسيج يربط المجتمع بعضه ببعض, حتـى إذا توقفت الدولة يمكن للمجتمع أن يعوضها، لأن المواطن لا يعيش فقـط فـي ظـل علاقات قانونية تسلطية, ولكنه يعيش أيضا كفاعل اجتمـاعي لـه فـضاء حقيقـي يتفاوض مع الدولة حول تقسيم الفضاءات, وبدون ذلك تصبح الدولة مطلقة ثم تنفي نفسها فتصبح فرداً فقط. فالدولة عندما تنفي المجتمع أو مدنية المجتمع وتنفي القانون يـصبح القانون هو المشكلة حيث لا يستطيع أن يستقيل، ولا يستطيع أن يقول إنني الآن أرغب في مغادرة الدولة، وحتى هذا الشخص لا يستطيع أن يفعل ذلك, وهذه إشكالية حقيقيـة أخرى. علينا أن نعترف أن القضية أحيانا في هذا الجانب الوظيفي في بلاد ليـست فيها دولة أصلا.. فقضية الصومال المدنية مثلا غيرها في مصر، ولكن قـضية مـصر تماثل إلى حد كبير قضية كل من العراق وسوريا والجزائر في جوانب جوهريـة فعندما تغولت الدولة خارج إطارها الاتفاقي وصادرت كل فضاء العمل الاجتمـاعي نفت نفسها ودمرت المجتمع فلم يعد هناك مجتمع، وعندما سقط صدام حسين نهـب المجتمع نفسه بنفسه لأنه لم يكن مجتمعاً ولم يكن موجوداً في حالة مدنية. إن هذه الإشكالية النظرية في الواقع إشكالية عملية للغاية، فنحن مـثلاً قـد انقسمنا حول الموقف من نظام صدام حسين لهذا السبب تحديداً, ووفقاً لـبعض آراء المثقفين العرب كانت القضية هي مقاومة الهجمة الإمبريالية, مع الـسكوت الكامـل عن واقع نظام صدام حسين. بينما كان الآخرون يعتقدون أننا يجب أن نتحدث فقـط عن نظام صدام حسين وندمره بغض النظر عن أي شيء آخر، ولكن كـان هنـاك موقف يقبل تجاوز الجدل حول الحالتين معاً, وهو إننا نرفض نظام صـدام حـسين ونرفض الإمبريالية معاً. هذه المواقف ليست جميعها مواقف عملية، ولكن لابد أن تكون لهـا بنيـة منطقية أو عقلية، ويجب علينا أن نعترف بالتنوع، ولدينا إشكاليات مختلفة، ولكننـا نستطيع أن نتحد معاً. ومع ذلك فهناك اتفاق جوهري على أن القـضية الجوهريـة هي قضية دولة القانون ودولة المؤسسات ودولـة الديمقراطيـة ذات محتويـات تاريخية مختلفة تبعاً لكل حالة على حدة. وإذا كنا نريد حصر المسألة في التطور الديمقراطي فيجب إذن أن نتحدث عن الأحزاب السياسية وجمعيات حقوق الإنسان، ويمكن أن نُدخل في ذلـك أحياناً بعض المراكز الفكرية، أو أندية القضاة. فمن يتحدث عن الديمقراطية فـي الوطن العربي هو الأحزاب السياسية وامتداداتها داخل النقابات وتنظيمات المجتمـع المدني الأخرى، ثم جمعيات حقوق الإنسان.. فإذا كان ذلك هو المقصود فبإمكاننـا أن نتحدث عنه ,فلا يمكـن أن نتحـدث عن دور المجتمع المدني إذا كان هذا المجتمع المدني غير متكامل، وقـد اعتـرف الجميع أن المجتمع المدني ليس موجوداً في أي دولة من الدول العربية، فكيف أقول إن المجتمع المدني غير موجود ثم أنسب إليه أدواراً، وأتوقع منه أن يمـارس هـذه الأدوار بقدر أكبر من الفعالية؟ إذن فلا بديل عن مفهوم آخر واسع نُدخِل فيه الأحزاب السياسية وغيرهـا. فالإنسان العربي كابد ما هو أشد وطأة من القهر, فالمقهور يحتفظ بمداركه، يعي قهره، حرمانا من ممارسة بعض الحقوق؛ اما المهدور فلا يعي مأساته ويستنزف طاقاته الحيوية في مداراتها دون التخلص منها.
مجال علم النفس الاجتماعي يدخل في النضال التحرري وتحكم الإنسان بمصيره، وفي قضايا التنمية الاجتماعية؛ إذ لا تنمية اجتماعية إلا بمقدار ما تتسع خيارات الإنسان في امتلاك زمام مصيره تسييرا او توجيها او صناعة مصيره، من خلال بناء قدراته الذاتية وتمكينه الكياني، بحيث يرتقي الى نوعية تحقق كامل إنسانيته، أو يمارس ديمقراطية حقة. عطَّلت مرحلة الاستعمار الإستيطاني عملية القطع مع نظم العصر الوسيط وعلاقاتها الاجتماعية ونماذج اقتصادها وقيمها وثقافتها، وقدمت الدعم غير المحدود لأنظمة التخلف، الأنظمة الأبوية. علاوة على جرائم الإبادة وقمع الإرادات الوطنية خلقت السيطرة الكولنيالية الظروف لتواصل ثقافة الاستبداد للعصور الوسطى بمكوناتها الكاملة، في الحياة الاجتماعية المعاصرة ومكنتها من الهيمنة على الثقافة القومية المعاصرة. النظام المستبد يحتكر لنفسه الثروة الوطنية وإدارة الحكم وينفرد بتقرير مصير المجتمع وتعليمه وإعلامه، ويستأثر لنفسه بحق تقرير حيوات أفراده. وحيث يحرم الإنسان من حقوقه الإنسانية فإنه يجرد من استقلاليته ومن الإدراك والوعي وتتشوه أذواقه وعواطفه. في ظل النظام المستبد نكون “بصدد هدر إنسانية الإنسان متعددة الأبعاد والمستويات والألوان بِدءاً بهدر الدم وإدِّعاء الحق في التصرف بالكيان، وانتهاءاً بهدر الوعي والحجر على العقول، مرورا بهدر الطاقات الحية من خلال الحرب عليها والتفنن بأساليب كَتمَها. يهدر العقل ذاته باعتبار أن الوعي هو المدخل إلى التفكير والعطاء الفكري. كما قد يصيب الهدر العام المواطنة والانتماء، “وكلها تولد مآزق وجودية كبرى للأفراد والمجتمع بشكل عام. يتلازم مع إمتهان الإنسان هدر الموارد والثروات، وفي عالمنا العربي لا يكاد هدر الثروات يثير فضيحة، بينما الهدر في البلدان المتقدمة يحيل ممارسات الفساد المالي إلى فضائح تطيح بالرؤوس. ويُكمل السلسلة هدر المؤسسات التي تُجيَّر لخدمة مكاسب ونفوذ السلطات والعصبيات (أو بالأحرى السلطات العصبية) على اختلافها… وتكون النتيجة إحكام الحصار على الإنسان وإمتهان الكرامة. ذلك أنه حين يتم هدر المؤسسات والثروات يتم الاستفراد بالإنسان وكيانه من خلال تجريده من كل مرجعيات القوة والمنعة والحقوق… ولا مكان عند هذا الحد للتنمية والإنماء. وفي بلاد الهدر تختزل الكيان الوطني في هَم الحفاظ على المتسلطين. ينتشر الفساد ويتدهور الأداء والنهب وتعطَّل مشاريع التنمية. يتحول لإهتمام سلطات الحكم الى إلهاء الشباب العاطل بثقافة التسلية,تُعطل طاقات الشباب المتفجرة المتوثِّبِة وترديها في خيبات أمل وإستسلام، او في ردود أفعال متطرفة من خلال إعلام مُخَدَّر.
وفي السياق الغربي للمواطنة أشارت دائرة المعارف البريطانية (بأنها علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة)، وهي بذلك تضمن للمواطن التمتع بالحقوق تجاه الدولة، كما تخوِّل له امتيازات خارج دولته. “ولكي تكون فكرة المواطنة واضحة لدى النّاس دعا بعض المفكرين الأوروبيين آنذاك إلى توعيّة المواطنين ولو على نحو إجمالي بالواجبات المدنيّة التي تتطلبها المواطنة، ومنها الالتزام بالمحافظة على الوضع الراهن، والاعتراف بالحكومة القائمة، ومقاومة الدّيماغوجيّة، والانضباط ومعرفة القوانين، لكي تحصل عمليّة الانضباط والتقيّد ضمن سلوك وتوجّه معين". وأقترن مبدأ المواطنة بحركة نضال التاريخ الإنساني من أجل العدل والمساواة والإنصاف. وكان ذلك قبل أن يستقر مصطلح المواطنة وما يقاربه من مصطلحات في الأدبيات السياسية والفكرية والتربوية، وتصاعد النضال وأخذ شكل الحركات الاجتماعية منذ قيام الحكومات الزراعية في وادي الرافدين مروراً بحضارة سومر وأشور وبابل وحضارات الصين والهند وفارس وحضارات الفينيقيين والكنعانيين.