على أعتاب مرور 30 عاماً على انهيار دول المنظومة الاشتراكية تباعاً وآخرها الاتحاد السوفييتي مازال اليسار العربي يجتر انتقاداته المتكررة للأسباب التي أدت إلى تراجع وتضعضع قواه وأحزابه ، بعض هذه الانتقادات وضع أصابعه على الأخطاء الخطيرة التي وقعت فيها هذه القوى واستشرف سُبل معالجتها وآفاق النهوض ؛ وبعضها اكتفى بالنقد الذاتي الحاد من برجه العاجي والذي يرقى إلى الجلد الذاتي دون أن يقدم البدائل  الواقعية الممكنة ؛ وفي المقابل ينبغي الاعتراف بلا جدال ان الازمة ما برحت تراوح مكانها إللهم إلا في أدنى الحدود النسيبة وتتفاوت أيضاً من حزب يساري إلى آخر تبعاً لظروفه الذاتية والموضوعية سياسيا واجتماعياً ، كما ينبغي القول بأن هنالك قوى وأحزاب يسارية وشيوعية تحولت على مدى الثلاثة عقود الفائتة بامتياز إلى مجرد مقرات لبضع عشرات أومئات من النُخب السياسية من الاعضاء الكبار السن ( من خمسين فما فوق ) والمفتقدة لأي تواصل أو علاقة جماهيرية ؛ وثمة أحزاب يُناضل أعضاؤها ما في وسعهم لأن يكون لهم تواصل مع الجماهير الشعبية في مختلف أصقاع الوطن بأي قدر ممكن تسعفه به طاقاتهم وجهودهم ، وفي عدادهم نسبة من الشبيبة ، وحققت على الأقل بصورة او اخرى نجاحاً ولو جزئياً. وأحسب الحزب الشيوعي العراقي هو واحد من قلة من هذه الاحزاب في عالمنا العربي  . 

 والحال إذا شئنا القول فإن هذا الحزب من الاحزاب التي يتعرض الآن إلى حملة جديدة قديمة ظالمة ليس من قِبل أعدائه فحسب بل ممن يُفترض بهم أقرب الناس إليه سواء ممن ابتعدوا عنه أو ممن هم في معازل المهجر بعيداً عن ظروف ومتغيرات أوضاع الوطن الهائلة والمستجدة . سواء من يكتب منهم في صحافة سعودية وخليجية أم حتى من يكتب في مواقع إليكترونية يسارية صديقة . لستُ هنا بطبيعة في وارد تنصيب نفسي مُدافعاً عن الحزب الشيوعي العراقي فهو أقدر بالدفاع عن نفسه ؛ ولا أعتقده كتنظيم سياسي يحسب نفسه فوق النقد معصوم عن الاخطاء والزلل  ، ولست هنا استتباعاً مبرراً لاخطاء اليسار العربي عامةً والاحزاب الشيوعية العربية بخاصة ؛ ولي في هذا الشأن مقالات ودراسات تحليلية نقدية شديدة صحفية عديدة منذ الانهيارات مطلع تسعينيات القرن الماضي ، لكن من الإنصاف أن نقول إذا كانت كبوة اليسار قوى اليسار تتحكم فيها عوامل موضوعية وذاتية ففي المرحلة التاريخية الراهنة التي نحن شهود عليها تكاد أن تكون العوامل الموضوعية لاعتبارات عديدة أشد تأثيراً من العوامل الذاتية ، ودون أن يعني ذلك الاستكانة إليها دون بذل ما يمكن في التأثير والتغلب عليها ، وهذا بحاجة إلى وقت مديد دونه أشواط وجهود نضالية مرحلية تراكمية وصبر ذو نفس ثوري ويملك أفقاً بعيداً من التفاؤل لا بث الاحباط واجترار دوّامة الانتقادات . وعلى الأقل فإن مثل هذه الأحزاب كالحزب الشيوعي العراقي وهي تخوض في الظروف الراهنة نضالاً شاقاً في منتهى التعقيد والضراوة على نحو لم تخض مثله منذ عقود طويلة من تأسيسها تبني مواقفها بناءً على تلامس واحتكاك مع الجماهير بأي صورة من الصور وبأي قدر ممكن من الاقدار وهو ما يفترق عن بناء المواقف الفردية المتسرعة البعيدة عن ملامسة الواقع والاحتكاك مع الجماهير . ولنا أن نتخيّل أحاسيس مناضليه وقيادييه بعد معركة انتخابية حامية الوطيس وهي مجرد واحدة من معاركه النضالية اليومية وما اكثرها وقد استنزفت من جهده وجهود مناضليه الكثير وبشق الأنفس حصل على مقعدين برلمانيين أن يُقابل  حصاد نضالاتهم بالتشكيك والتحبيط في جدوى تحالفاته ومازال الوقت مبكراً في الحكم على ذلك ! واذا كانت قوى اليسار العالمي عامة والاحزاب الشيوعية في عالمنا العربي طفقت وفي مسعى منها بعد انهيارات المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي إلى لملمة صفوف اليسار العربي بوقف حملاتها ضد اليسار العربي الجديد وضد النموذج الصيني للإشتراكية وسعت للتقارب والتنسيق أيضاً مع  القوميين الديمقراطيين وحتى الاشتراكيين الديمقراطيين في اوروبا ، أليس الأولىٰ أن تكون القوى والشخصيات اليسارية المستقلة التي كانت محسوبة على خط الحزب الشيوعي العراقي أو الاحزاب الشيوعي تتفق مع هذه الفكرة والهدف أن تحاذر وأن تضع نصب أعينها لئلا يتحوّل نقدها المُجتر والقاسي الى معوّل هدم بدون وعي منها ومهما كانت حسن نواياها للاحزاب التي تربت نضالياً وسياسياً في كنف أحضانها ؟   

 

عرض مقالات: