يرتفع في السويد منذ حين زعيق هستيري يربط بين حقوق المواطنة في السويد والمشاركه في الدفاع عن الوطن، ويوهم بأن السويد تتعرض بالفعل لعدوان أجنبي وشيك، يستهدف أمرين فاسدين الأول، هو التشكيك بوطنية وانتماء السويديين من ذوي الأصول غير الأوربية للبلاد، كخطوة أولى تمهد لسن قوانين تتيح سحب الجنسية من السويديين ذوي الأصول غير الأوربية، بذريعة عدم الإخلاص للوطن.
والثاني التعتيم على حقيقة أن السويد ليست مهددة بعدوان، بل أن النخب السياسية المتنفذة فيها، تدفعها الى الأنخراط في حروب خارج حدودها، أستجابة لضغوط خارجية من واشنطن ولندن، للحيلولة دون حل الأزمة الأوكرانية بطرق سلمية، وتمكين شركات أنتاج السلاح والعتاد من مراكمة مزيد من الأرباح.
وكل ذلك يتعارض مع الأرث السويدي الغني في أحترام المواقف الرافضة للمشاركة في الحروب وأعمال العنف لأسباب ضميرية، وسبق للسويد أن منحت اللجوء السياسي لأمريكيين رفضوا المشاركة في حرب فيتنام.
النخب السياسية المتنفذة سواء في الحكومة او المعارضة التي تساهم في هذا الزعيق، تقوض كل الأرث الأنساني الذي راكمه المجتمع السويدي على مدى يزيد عن المئتي عام.
وربما يساعد إلقاء نظرة عجلى على التغيرات في الخارطة السياسية السويدية في التعرف إلى بعض خلفيات هذا التطور الدراماتيكي الذي يجري في البلاد التي عرفت على 22 عقدا من الزمان كعامل إيجابي في العلاقات الدولية من خلال التزام سياسة النأي عن الأحلاف العسكرية، والسعي الى حل النزاعات وإطفاء بؤر التوتر ولعب دور الوسيط المحايد بين أطراف النزاع.
يمكن تلخيص الوضع السياسي الراهن في السويد على النحو التالي:
إنعدام الفوارق بين أحزاب حكومة الأقلية: تجمع المعتدلين، الديمقراطيين المسيحيين والليبراليين، إنعدام الفوارق بينها وبين الحزب الداعم للحكومة من خارجها "ديمقراطيي السويد" المعادي للسويديين من أصول غير أوربية. والأكثر عداء للسويديين المنحدرين من مجتمعات مسلمة. إذ صار رئيس الحكومة، رئيس تجمع المعتدلين أولف كريسترشون يستخدم ذات التعابير والمصطلحات التي يستخدمها رئيس
"ديمقراطيي السويد" ييمي أوكسون.
حزب المعارضة الرئيسي "الديمقراطيين الأجتماعيين" مازال ثمة فجوة بينه وبين أحزاب الحكومة فيما يتعلق بالسياسة المحلية، ولم يتبن بعد ذات الخطاب الصريح في تقسيم المجتمع السويدي إلى "نحن وهم" أي نحن السويديين "الأصلاء" الأوربيون، أصحاب البلاد وأصحاب الفضل على المهاجرين ـ غير الأوربيين ـ الذين ينبغي أن يشعروا بالأمتنان لأفضالنا عليهم، وينبغي أن يعيشوا كما نقرر نحن وفق قيمنا وطريقة عيشنا، وإلا لا حق لهم في المواطنة "التي هي ليست مجرد وثيقة سفر"، بل أنصهار في القيم وأسلوب الحياة، وأستعداد للدفاع عن البلاد بالسلاح. الديمقراطيون الأجتماعيون لم يتبنوا هذا الموقف على نحو كامل بعد، وإن كانوا يقتربون منه رويدا رويدا
ومازال بين الجانبين شيء من التباين فيما يتعلق بالسياسات الضريبية والموقف من أطلاق حرية جني الأرباح للقطاع الخاص في قطاعات الخدمات العامة التي تمولها الدولة من أموال دافعي الضرائب، مثل الصحة والتعليم.
كما أن الديمقراطيين الأجتماعيين ما زلوا غير متطابقين تماما مع الموقف الحكومي الداعم لأسرائيل و "حقها في مواصلة تدمير غزة وقتل سكانها، دفاعا عن النفس، وضمانا لعدم تكرار هجوم السابع من أوكتوبر الدموي الأرهابي". لكنهم وعلى صعيد السياسة الخارجية يقتربون من التطابق مع سياسات الحكومة فيما يتعلق بالتلهف على عضوية حلف الناتو، ودعم جهود الحلف، حتى من خارجه لتأمين، "أنتصار أوكرانيا على روسيا". ولا أعتراض لديهم على فتح القواعد العسكرية السويدية للإستخدام من قبل أمريكا وبلدان الحلف، لمواجهة "الخطر الروسي.
بعيدا نسبيا عن هاتين الكتلتين الأساسيتين هناك ثلاثة أحزاب صغيرة، هي حزب الوسط، حزب اليسار وحزب الخضر. الوسط يتأرجح في سياساته بين الكتلتين، لكنه ما يزال يرى في "ديمقراطيي السويد" حزبا عنصريا ويرفض التعاون مع الحكومة التي تحظى بدعمه. أما الخضر فقد تراجع نفوذهم مع تراجع الأهتمام الشعبي بقضايا البئية في خضم الصراعات السياسية والعسكرية المضطرمة في أوربا والعالم، بقي حزب اليسار الذي يحاول جاهدا البقاء على شيء من الأخلاص لمبادئه الأساسية، مع الأضطرار الى تقديم التنازلات في هذا المجال أو ذاك، فرغم أن الحزب ما يزال يعارض انخراط السويد في الأحلاف العسكرية، إلا أنه صوت في البرلمان إلى جانب مد أوكرانيا بالسلاح، في تعارض مع مبدأ طالما تمسك به في السياسة الخارجية وهو حل النزاعات بالطرق السلمية، وعدم مفاقمتها وتوسيعها بمد أحد أطرافها بالسلاح.
ولا حاجة للإشارة المستفيضة إلى أن هذه الخريطة السياسة هي أنعكاس قريب جدا لمستوى الوعي الجمعي السائد حاليا في المجتمع السويدي، الذي يساهم الى حد بعيد في تشكيله الأعلام السويدي الذي مازال يواصل الأبتعاد عن الحيادية، بعد أن كان لعقود طوال نموذجا مشرفا من نماذجها.