من خلال دراسة دور المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في السياسات العامة في مجالات الرسم والتنفيذ والتقييم، يبرز تباين أداء كل مؤسسة من تلك المؤسسات في صنع السياسات العامة في البلدان النامية والمتقدمة، وتباين قوة وفاعلية كل منها، وهذا يعود بطبيعة الحال إلى الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتطور التاريخي لتلك المؤسسات ودرجة علاقتها مع بعضها ودرجة علاقتها ككل مع المجتمع. وفيما يتعلق بدور المؤسسات الرسمية فترسخ المؤسسات واستقرارها وإمكانيتها في ممارسة نشاطها وقدرتها على نقل متطلبات المجتمع إلى حيز التطبيق يؤدي إلى أن تكون مخرجات السياسات العامة أكثر ديمقراطية وأكثر شمولية لمتطلبات المجتمع وبالتالي تكون السياسة العامة سائرة في إطار ديمقراطي سليم. ومن خلال ذلك يبرز التباين بين الأنظمة السياسية في الدول المتقدمة والأنظمة السياسية في الدول النامية، فبقدر ما تكون الأولى قائمة على ترسِّخ المؤسسات واستقرارها واستقلاليتها النسبية وتوازنها في تحقيق متطلبات المجتمع، تكون البلدان النامية معبّرة عن حالة هيمنة المؤسسات التنفيذية وضعف المؤسسات التمثيلية المتمثلة بالسلطة التشريعية أو المجالس النيابية، وإنعدام وضعف الحلقات الوسيطة بين النظام السياسي والمجتمع المتمثلة بوجود مؤسسات المجتمع المدني، وبالتالي فان السياسات العامة للبلدان النامية تكون معبّرة في الغالب عن طبيعة العلاقة القائمة بين مؤسسات النظام السياسي الرسمية وغير الرسمية هذا يؤدي إلى أن تكون السياسات العامة لغالبية تلك البلدان عاجزة عن تلبية جميع أهداف المجتمع أو إنها سياسات لا تتميز بطابع الاستمرارية والثبات النسبي نظراً لعدم الإستقرار السياسي وضعف الإستجابة للمطالب المجتمعية.
والتداول السلمي للسلطة، هو عدم جعل الحكم في قبضة شخص واحد، أي التعاقب الدوري للحكام في ظل انتخابات حرة، وبذلك سوف يمارس هؤلاء الحكام المنتخبون اختصاصاتهم الدستورية لفترات محددة سلفاً، وبهذا سوف لا يتغير اسم الدولة ولا يتبدل دستورها ولا شخصيتها الاعتبارية بتغيير الحكام والأحزاب الحاكمة، وبهذا فإن السلطة هي اختصاص تتم ممارسته من قبل الحاكم بتخويل من الناخبين وفق أحكام الدستور، أي إن السلطة ليس حكراً على أحد، وإنما يتم تداول السلطة وفقاً لأحكام الدستور الذي يعتبر السلطة التي لا تعلوها سلطة أخرى. إن التعددية السياسية تعتبر أحد الشروط الأساسية لتحقيق الديمقراطية ومظهر من مظاهرها الأساسية وعنصر من عناصر وجود الديمقراطية، ولكن لا يغيب عن البال إن تحقيقها هو أمر سهل، لذلك لا يمكن تحقيق الديمقراطية، بين عشيةً وضحاها "فإرساء نظام ديمقراطي معناه إقامة بنيان متكامل يشمل مكونات عديدة مثل الضمانات المتعلقة بصيانة حقوق الإنسان بما في ذلك حرية التعبير العلني، وتكوين الجمعيات والانضمام إليها وسيادة القانون، وإجراء انتخابات حرة نزيهة يتنافس فيها الجميع على فترات دورية، ووجود نظام متعدد الأحزاب يسمح بتداول السلطة بصورة رسمية ومنظمة، وفوق ذلك ضرورة وجود للضبط والمراقبة يجعل المنتخبين للمناصب العامة، مسؤولين مسؤولية كاملة أمام الناخبين" (1) . لذلك فأن مبدأ إقرار التعددية السياسية لا يعني تحقيق الديمقراطية، فالديمقراطية تعني قبل كل شيء منع احتكار السلطة والثروة من قبل فئة أو جهة واحدة أو طائفة اجتماعية معينة، أو بدون التداول السلمي للسلطة، وتوزيع الثروة بين الجميع وفقاً إلى مبدأ تكافؤ الفرص والاستحقاق والجدارة، وبدون ذلك فمن الصعب الإدعاء بتحقيق الديمقراطية.
والتنمية السياسية بوجه عام تخلق الظروف والشروط الملائمة للتطور الديمقراطي، فالتنمية السياسية تهدف في النهاية إلى بناء النظام السياسي، وإجراء عمليات التحديث عليه ليصبح نظاماً عصرياً ومتطوراً وديمقراطيا، فالتنمية السياسية بذلك تفترض التخلص من بقايا السلطات التقليدية بخصائصها التي لم تعد تناسب البناء الجديد، وهذه الحالة تتطلب وجود عملية مواجهة مستمرة مع البقايا الراسخة التي ما تزال تؤثر سلبا في اتجاهات الأفراد والمجتمع. إن إتاحة الفرصة لجميع سكان الدولة للمشاركة الشعبية باتخاذ القرارات وإدارة شؤون البلاد، سواءً بشكل مباشر أو عن طريق ممثلين عنهم، أي بمعنى الإسهام في الحياة العامة، يولد الأمن والاستقرار السياسي داخل البلاد، لان المشاركة السياسية هي إحدى الشروط الأساسية للقدرة على رص الصفوف لتحقيق الوحدة الوطنية، وكذلك تحقيق أهداف التنمية السياسية.
على الرغم من أن الأحزاب السياسية ليست الأشكال الوحيدة للتنظيم في أي نظام ديمقراطي، إلاّ أنها تُجسِّد إرادة الشعب بشكل مؤثر، وقد أُجرِي عدد كبير من البحوث التجريبية لتوضيح العلاقة الجدلية بين أنواع النظم الانتخابية، والنظام الحزبي والنظام السياسي. وبعض المختصّين يؤكدون أنه كلما كان النظام أكثر ديمقراطية، كانت الأحزاب السياسية أكثر ديمقراطية، وكلما زاد حرص الأحزاب على أن تعمل بطريقة أكثر ديمقراطية، ازدادت القدرة الديمقراطية للنظام السياسي على التوسع. لذا لا يمكن تصور الديمقراطيات الحديثة من دون وجود الأحزاب السياسية. في هذا الصدد، فإن الأحزاب السياسية تحافظ على استمرار الديمقراطية، وتدين بوجودها للأنظمة الديمقراطية. لهذا السبب، فإن الأنظمة الديمقراطية ملزمة بتوفير الأرضية القانونية والسياسية الضرورية للأحزاب السياسية لتمثيل الشعب. من ناحية أخرى، ينبغي على الأحزاب السياسية ألا تلحق الضرر بهذا الأساس الذي يُعدّ سبب وجودها، ويجب عليها ألاّ تنظر إليه باعتباره أداة فقط لتلبية مطالب أنصارهم.وهناك العديد من الإجراءات اللازمة لتنفيذ التمثيل السياسي بشكل تام؛ لذلك فإن تقليص هذه الاجراءات إلى مجرد العلاج (السياسي) تحت أي ظرف من الظروف، يعني تجاهل جميع العوامل الأخرى التي تسبب غياب الديمقراطية، وأهمها حجم التمويل الذي يملكه أولئك الذين يطالبون بالتمثيل. لهذا السبب، فإن الجهل بالاقتصاد السياسي للأحزاب، يؤدي إلى رؤية أبعاد معينة فقط من غياب الديمقراطية، حيث تكون الأحزاب الفاعل الرئيس للانتخابات وآليات تجسيد التمثيل. إن التعددية السياسية لها نماذج عدة فمنها التعددية الحقيقية ومنها التعددية الشكلية، فالتعددية الحقيقية قائمة على وجود أحزاب مختلفة من البرامج والأيديولوجيات، وهذه الأحزاب تتنافس فيما بينها عن طريق الانتخابات الحرة التي تجري بصورة دورية، أما التعددية الشكلية فهي في إطارها الخارجي تحمل مظاهر التعددية السياسية، أي تكون من عدة أحزاب، ولكن النظام القائم أقرب إلى نظام الحزب القائم، وهو الحزب المسيطر، ومن هذا فإن التعددية السياسية تعني الاختلاف في الرأي والطروحات الفكرية واختلاف في البرامج والأيديولوجيات والمصالح والتكوينات الاجتماعية والديموغرافية والاقتصادية.
ووجود الاحزاب الحقيقية التي تعتمد مفهوم الديمقراطية وآلياتها ينشِّط الوعي السياسي، ويسهم في تشكيل الرأي العام وتوجيهه، كما تقوم هذه الاحزاب بدور مهم يتمثل في تهيئة الكوادر القيادية لادارة الدولة، وتتولى مسؤولية توحيد المجتمع وتحويله من طابعه الفردي الى الشكل الجمعي المؤسساتي مما يخلق ثقافة سياسية مشتركة غايتها بناء الوطن، وتحقق الاحزاب السياسية الديمقراطية الاستقرار السياسي من خلال تعبيرها عن المجتمع بكل مكوناته، وتملأ الفراغ بين الدولة والمجتمع وتقوم بمهمة حلقة الوصل والترابط بينهما، فالاحزاب توفِّر بادائها لهذه المهام البيئة الصالحة للحفاظ على التماسك الاجتماعي عبر الاستمرار، والتنظيم، ودخول الانتخابات للوصول الى السلطة والالتزام بتحقيق برنامجها السياسي، وتمثل الاحزاب هنا مستودعات الافكار السياسية للمجتمع بكل مكونات ونسيجه، كما تقوم بدور القناة التي تنساب عبرها هذه الافكار الى بنية الدولة ونظامها ومؤسساتها.
تُعد سيادة القانون من ركائز النظام السياسي الديمقراطي وهي من المعايير الاساسية لتطبيق النظام ونزاهة القضاء لضمان الحقوق والحريات الاساسية التي يجب ان يتمتع بها المواطنون دون تمييز وتستند سيادة القانون في, قوة القانون، ومساواة جميع المواطنين امام القانون، والامتناع عن التنفيذ الجزئي للقانون، وتتنافى سيادة القانون مع السلطة المطلقة التي تفضي إساءة إستخدامها وفساد القائمين عليها الى غياب دور القانون، ويُعدّ ضعف رقابة السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية من الاسباب الرئيسة للفساد وحماية المفسدين، إذ يشجع عدم فاعلية الانظمة الرقابية على الفساد والاضرار بالمصالح العامة للمجتمع (2)، فيفقد القانون هيبته في المجتمع بسبب قدرة المفسدين على تعطيله وعدم تطبيقه ضد المخالفين الذين تهدد ممارساتهم أمن المجتمع، فتصبح مخالفة القانون هي القاعدة السارية، ويتحول إحترامه الى إستثناء، ويأمن المفسدون من المسائلة والعقاب.
------------------------------------
1-د.عبد السلام إبراهيم بغدادي، الوحدة الوطنية ومشكلة الأقليات في أفريقيا، بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، 1993، ص291
2-محمد عابد الجابري، التعددية السياسية وأصولها وآفاق مستقبلها، (حالة المغرب)، ندوة منتدى الفكر العربي، عمان، 1979، ص107