أشنع سُبة يمكن أن توجه في وقتنا الحالي هي الوصم بمعاداة الساميّة، حتى انها أصبحت، سمة العصر، تُلصق بكل متضامن مع الفلسطينيين وكل عربي له موقف مناهض لسياسات المحتل الإسرائيلي، مع انه ساميّ الانتماء حاله حال ابن عمه اليهودي، حيث ينحدران من نسل سام بن نوح حسب ما تناقلته الأساطير الدينية. ولكن معاداة الساميّة اليوم تعمل باتجاه واحد.
الغريب أن أكثر الدول التي تعاقب بهذه التهمة هي دول ممعنة في العلمانية وبعيدة عن التوجهات الدينية في قوانينها، وكوسموبوليتية التوجه ولا تميّز على أساس العرق والدين وتعتمد المعايير الإنسانية في التعامل مع مواطنيها والقاطنين فيها بالمجموع.
المثير للسخرية أن مجرد ترديد هتافات أو نشر كلمات مثل فلسطين واحتلال وصهيونية وحماس واسرائيل وغزة وغيرها، يمكن أن تعتبر عداء للساميّة وتعبير عن الكراهية، مما يستدعي ملاحقة مطلقيها، بينما قصف مدنيين عزل في غزة دليل حب!!! لا بل حتى رفع علم فلسطيني أو اعتمار كوفية فلسطينية كافية لتصنف نشر للكراهية.
أي غير مسموح لك القول إن الاحتلال احتلال وان جرائمه ضد المدنيين جينوسايد قتل جماعي وان عزل الناس وراء جدار، أبارتهايد عزل عنصري وان القصف الهمجي للمدن بدون تمييز جريمة تطهير عرقي…
وحسب هذا المنطق وهذه المعايير والضوابط أصبح لزاماً علينا وصم وليم شكسبير بمعاداة الساميّة بسبب مسرحيته " تاجر البندقية " وصورة المرابي اليهودي الجشع شيلوك الذي يخلو سلوكه من أية مشاعر إنسانية. بل وإدانة الفيلسوف باروخ سبينوزا قبل شكسبير بنفس التهمة، لولا أن المفهوم لم يكن مبتكراً حينها، وهو المطرود من الملّة بسبب آرائه واستهجانه فكرة " شعب الله المختار "... وأن أسفار التوراة لم يكتبها موسى وإنما كتبت بيد مؤرخ واحد وأن فيها أخطاء تاريخية..
التاريخ الأوربي حافل بقصص الاضطهاد لليهود وتهجيرهم ومصادرة أموالهم وأملاكهم لأسباب سياسية أو دينية حتى.. لذا لم يكن اليهود مرغوباً بهم رغم اجتهادهم وحيويتهم في مجالات الحياة المختلفة. وكان آخر تعبير عن البغض لهم معسكرات الاعتقال النازية الفظيعة بحقهم.
يذهب البعض إلى أن رئيس الوزراء البريطاني آرثر جيمس بلفور ذاته يمكن تصنيفه معادياً للساميّة لأنه بوعده لليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين كان يود تنظيف أوروبا والتخلص منهم، وتجميعهم في منطقة محددة يمكن التحكم بهم.
ربما لم يكن الفلسطينيون يمانعون في وجود مهاجرين يهود إلى جانبهم. لولا أنهم استفحلوا وارتكبوا المذابح بحق أبناء البلاد الأصليين امام أنظار المحتل البريطاني وأعلنوا دولتهم.
ومن الجدير بالذكر ان غولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل الاسبق كانت قد حصلت على الجنسية الفلسطينية بمجرد وصولها إلى فلسطين بدعم من قوات الاحتلال البريطاني.
لا يمكن الجزم بوجود كره لليهود بين مواطني الدول العربية، بالمعنى الذي يجري تسويقه الآن، فقد كانوا متعايشين، ومشاكلهم بالعموم هي مشاكل عادية كأي مواطن…
وقد أوردت كتابات متنوعة لكتاب يهود عراقيين عن ذكرياتهم وحياتهم الطبيعية في العراق، ونذكر في هذا الخصوص: ابحاث الاستاذ سمير نقّاش، رسائل فيوليت شمّاس عن ذكرياتها في بغداد، كذلك ذكريات شموئيل (سامي) موريه، و (ذكريات وطن مفقود) لنسيم رجوان وغيرهم، إضافة إلى أبحاث مؤرخي تاريخ يهود العراق (مثلاً وليس حصراً) من العرب مثل الأستاذ المغيّب مازن لطيف والاستاذ نبيل الربيعي…
لابد أيضاً من الاشارة كذلك إلى رواية الشهيد الذي اغتيل بالكاتم علاء مشذوب الأدبية " حمّام اليهودي ".
وقد تبوأ اليهود مناصب إدارية رفيعة وكان لهم تأثيرهم في المجال الثقافي والفني والاقتصادي وبرز من بينهم قادة سياسيين في أوساط اليسار العراقي بالخصوص. وأول شهيد سقط في تظاهرة ضد الاحتلال البريطاني في بغداد في أربعينيات القرن الماضي كان الشهيد الشيوعي شاؤول طويّق عضو " عصبة مكافحة الصهيونية في العراق ".
ونشاهد بين فترة واخرى على اليوتيوب أحاديث يهود عراقيين من الجنسين يعبرون عن حنينهم الغامر وتوقهم لزيارة العراق والمناطق التي ترعرعوا فيها، وثنائهم على معارفهم وأصدقائهم وجيرانهم من العراقيين الآخرين، وتمسكهم بالتراث الغنائي العراقي.
حتى هجمات الفرهود (النهب) عام 1941 لبيوت اليهود في بغداد كانت بتأثير من البروباغاندا النازية التي كانت سائدة بتشجيع من حكومة رشيد عالي الكيلاني ذات النزعة القومية التي كانت تميل إلى ألمانيا النازية، لاسيما وان الاحداث اقترنت مع بدايات قيام دولة إسرائيل وحث الانكليز، لاحقاً، للحكومة الملكية على تهجير يهود العراق قسراً إلى اسرائيل ومصادرة كل أوراقهم الثبوتية.
أن فشل مشروع الدولة اليهودية وهشاشة كيانه يكمن في عدم وجود ارتباط روحي للإسرائيليين بالأرض، لوجود شعور داخلي بعدم انتمائهم لها ووجودهم طارئ.
يبدو أن الإخفاق الأكبر للغرب، الكامن في زرع (الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط) أنتج دولة عنصرية عدوانية، غير قابلة للحياة ولا يمكن أن تكون مصدر إشعاع ومثال يُحتذي لشعوب وبلدان المنطقة، أساءت إلى قيمهم الديمقراطية والانسانية.