يتفق الكثيرون ان الهجوم المفاجئ الذي شنته حماس في 7 تشرين الأول الجاري على المستوطنات الإسرائيلية. واجتياز السياج الحدودي شديد التحصين، والسيطرة على بعض المعابر ونقاط التفتيش، التي تفصل قطاع غزة، الذي حولته دولة الاحتلال الى سجن كبير، عن العمق الإسرائيلي.

وهكذا دخل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مرحلة جديدة غير معروفة النهايات. ولم تقتصر دعوات الانتقام من الشعب الفلسطيني على المؤسسات الأمنية والعسكرية التي اخذت على حين غرة، بل تعدت الى أوساط واسعة من سكان الإسرائيليين. وفي الأيام التي تلت الهجوم، شهد العالم قصفاً جوياً غير مسبوق لقطاع غزة أدى إلى مقتل الآلاف من السكان المدنيين. ومن الممكن أن يتسبب الهجوم البري المحتمل في كارثة إنسانية غير مسبوقة للشعب الفلسطيني، تضاف الى سلسلة المذابح وجرائم الحرب التي نفذها المحتلون ضده. ويبدوا إن الأمل في تحقيق سلام عادل في الشرق الأوسط قد تراجع هو الآخر بمديات غير معروفة سابق. وتبقى معرفة تأثيرات الهجوم على الحياة السياسية والعامة في إسرائيل مهمة باعتبارها أحد العوامل المحورية في التطور اللاحق للصراع، عبر تأثيرها المباشر على توازن القوى داخل المعسكر الصهيوني، وكذلك بينه وبين القوى الساعية للسلام داخل إسرائيل على محدوديتها. في حوار نشرته مجلة جاكوبين اليسارية في 18 تشرين الأول الجاري مع المؤرخ ومدير مكتب مؤسسة روزا لوكسمبورغ الألمانية في تل ابيب غيل شوحط، الذي عاش الحدث هناك، انطباعات وتقيم أولي لتأثيرات الحدث على الداخل الإسرائيلي. والقراءة التالية مبنية على ما جاء في الحوار.

كان من الصعب جدًا في البداية فهم أن مقاتلي حماس قد اخترقوا بالفعل البلدات الإسرائيلية القريبة من الحدود. لقد كان الأمر غير واقعي، وكانت التطورات تحدث بسرعة..

كان ذلك مخيفًا، ليست هناك حاجة لتلطيفه. لقد كان لدى السكان شعور كبير بعدم اليقين وكان الجو مخيفًا. كانت تل ابيب فارغة، بل وأكثر فراغًا مما كانت عليه في يوم سبت عادي، وكان هناك الكثير من الأسئلة: ماذا يجب أن تفعل الآن؟ كما أن هناك عدم تصديق بأن قوات الأمن الإسرائيلية لم تكن قادرة على منع ما حدث. وهناك شعور لدى السكان، وهو في الواقع حقيقي، بأن جيش الاحتلال نقل العديد من القوات إلى الضفة الغربية في الأشهر الأخيرة لحماية المستوطنين المتدينين الأكثر تطرفا، الذين أصبحوا وحشيين بشكل متزايد في مهاجمة الشعب الفلسطيني.

ولوحظ أيضًا اتساع النقد الحاد للحكومة والجيش وأجهزة المخابرات منذ اليوم الأول للهجوم. خاصة عندما يتعلق الأمر بمسألة كيف تم التخلي عن البلدات القريبة من غزة لفترة طويلة. هناك قدر لا بأس به من الغضب تجاه الحكومة، وخاصة من أقارب الرهائن الذين اختطفوا في قطاع غزة. وشهدت الأيام الأخيرة احتجاجات متزايدة أمام وزارة الدفاع الإسرائيلية للمطالبة بالإفراج الفوري أو المطالبة بتبادل الأسرى.

اليسار

اليسار الإسرائيلي المناهض للاحتلال مجموعة صغيرة جدًا. ومع ذلك فالكثير من الأماكن التي تعرضت للهجوم هي أيضًا أماكن عاش فيها الناشطون المناهضون للاحتلال وقُتل بعضهم او اختطف، وبالتالي فان هذه الأوساط تعاني من المضاعفات السياسية والإنسانية المباشرة للحدث أيضًا. وما حدث أذهل اليسار أيضا.

صدر العديد من التصريحات من منظمات حقوق الإنسان في إسرائيل، ولكن أيضًا من جهات يسارية وناشطين مناهضين للاحتلال، وهم يقولون: لا يوجد تناقض بين التعاطف مع جميع الذين قتلوا في هذه الحرب وبين الإدانة والمقاومة لما يقوم به الإسرائيليون. وما يقوم به الجيش في قطاع غزة من عنف. واوساط اليسار تتعامل بوعب وعمق مع التعقيدات والازدواجية التي تلف ما يجري، بالنسبة لهم على الأقل، إذا كانوا يهودًا أو فلسطينيين، وان ذلك مثيرًا للإعجاب في هذه الأوقات الصعبة.

ويستهدف القمع أيضًا اليساريين اليهود. وأبرز مثال على ذلك هو الصحفي إسرائيل فراي، الذي حاصر متظاهرون يمينيون منزله ووصفوه بالخائن. وهذا ليس تطورا جديدا. لقد ظلت المساحات التقدمية تتقلص في إسرائيل منذ عقود. وحتى العاملين في المؤسسات اليسارية الأجنبية، مثل مؤسسة روزا لوكسمبورغ يشعرون بذلك، وتعرضوا فعلا للترهيب.

والهجمات على الصحفيين ليست جديدة. ويواجه الصحفي جدعون ليفي في صحيفة هآرتس الهجمات الشخصية خارج منزله منذ عام 2014. إسرائيل فراي مثال آخر: بالنسبة لليمين الإسرائيلي، يُنظر إلى اليساريين على أنهم خونة، وخونة للوطن، و"عشاق العرب"، كما يطلق عليهم. وهم دائما في خطر، وهدف لهجمات اليمين. ولهذا السبب فإن نشاطهم وتضامنهم ملحوظ للغاية في هذا الوقت.

واليسار في إسرائيل على وجه الخصوص مقتنع بأن الأمن لا يتحقق عبر المزيد من القتل، والمزيد من المعاناة، والمزيد من النزعة العسكرية. ويعتقد شوحط، أنه من المهم للغاية بالنسبة لليسار الألماني أن يدخل في حوار مع هذه الأصوات، لتجاوز الموقف احادي الجانب الذي تعلنه اكثريته.

الاحتجاجات

عندما انخرطت إسرائيل في حروب الماضي، كانت الوحدة عالية جدًا، خاصة في البداية. ولكن الكثيرين في إسرائيل يقولون أيضاً: "حسناً، يتعين علينا أن نقف معاً الآن، ولكن بعد انتهاء هذه الحرب، لن يُسمح للمسؤولين عن هذه الحرب بالبقاء في مناصبهم يوماً واحدا". وسيكون من المثير أن نرى ذلك. إلى أي مدى تشكل هذه الاحتجاجات ديناميكيات مشتعلة، وإلى أي مدى يمكن ربط هذه الاحتجاجات بانتقاد الاحتلال، لان الغضب ضد الحكومة لا يزال موجودا. وان المحتجين الذين نزلوا الى الشوارع للاحتجاج ضد الحكومة اليمينية المتطرفة خلال الأشهر التسعة إلى العشرة الماضية لن يعودوا ببساطة إلى العمل والحياة العادية.

ومن المثير للاهتمام أيضًا أن نرى أن الشخصيات الأشد عنصرية في الحكومة اليمينية المتطرفة، والتي كانت الأكثر مطالبة بالإصلاح القضائي لأنه يخدم سياساتها الاستيطانية واللاهوتية المتطرفة، لا تلعب حاليًا أي دور تقريبًا في مسرحية حكومة الطوارئ. وفي المقابل، تواصل صب الزيت على نار السياسية الداخلية.

فلسطينيو الداخل

بالإضافة إلى تصرفات الجيش، هناك قلق عميق بسبب القمع المتزايد ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. يمكن لأي شخص يعبر عن تضامنه مع قطاع غزة في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي أن يتم إيقافه عن العمل. وهذه الحالات في تزايد مستمر. والتهمة الجاهزة هي "التضامن مع العدو". بالإضافة تعرض المواطنين الفلسطينيين الى المزيد من الهجمات، وفي بعض الحالات يتم استبعادهم من الحياة العامة. هناك أكثر من مليوني فلسطيني يحملون الجنسية الإسرائيلية، ويواجهون بالإضافة إلى التمييز المنظم الذي يعانون منه، من أعمال انتقامية من اليمين الإسرائيلي في هذه المرحلة. لقد أصبح حصول المدنيين الصهاينة على الأسلحة النارية أسهل من أي وقت مضى داخل إسرائيل..

ومن الايجابي أن نرى مجموعات من اليهود والفلسطينيين في إسرائيل تجتمع معًا لحماية السكان الفلسطينيين. وعلى الرغم من ذلك هناك مخاوف كبيرة بشأن ما ينتظر السكان الفلسطينيين في المستقبل، في الأراضي المحتلة وداخل إسرائيل.

وفي المانيا

مع تفهم الخصوصية التاريخية للتجربة الألمانية، بشأن حماية اليهود والموقف من معاداة السامية، الا ان مساحات النقاش المفتوح والتضامن مع المجموعات المضطهدة أصبحت أصغر بشكل عام. ومن الواضح أن هذا يشمل الفلسطينيين أيضًا. هناك جالية فلسطينية كبيرة جدًا في ألمانيا، تشعر بالقلق والغضب لأسباب وجيهة.

وينبغي أن يتمتعوا بنفس الحق الذي يتمتع به أي شخص آخر في تمتعهم بحرية التعبير. ولا يمكن لأي شخص مهتم بالديمقراطية التعددية والمتنوعة أن يكون غير مبال بما يحدث. وفي الوقت نفسه، أعتقد أنه من المهم الحفاظ على الروابط القائمة والتضامن بين المجموعتين الفلسطينية والإسرائيلية. لأنه من الواضح أيضًا أن أي مستقبل للمنطقة لا يمكن أن يكون إلا مستقبلًا مشتركًا. من المهم أن تظل برلين مكانًا يمكن تصور هذا المستقبل المشترك فيه.

*- نشرت لأول مرة في جريدة المدى في 29 تشرين الأول 2023

عرض مقالات: