مقدمة
تكتسب ثقافة الاستذكار وإبقاء الذاكرة الجمعية حية أهمية استثنائية في الزمن الرديء الذ( الذي ) تعيشه بلداننا في الوقت الحاضر. ومن هنا تأتي ضرورة التوقف عند المحطات المفصلية في تاريخ شعوبنا، وخصوصا تلك التي، أدت خسارتها الى كارثة شاملة مستمرة، قد تدوم لسنين، وربما عقود مقبلة.
وإذاكان تعريف الأجيال الشابة بتجارب شعوبها التاريخية مطلوبا ومبررا، فان قراءة هذه التجارب بعيون مفتوحة وعقول نقدية، بالنسبة للقوى المتصدية لتحقيق التغيير، يكتسب أهمية قصوى. ولعل أبرز الدروس المستخلصة من التجارب العظيمة، ونهاياتها المفجعة، هي ان انصاف الحلول وانصاف المواقف والاطمئنان لعدو مفترس يقود دوما الى، الى خسارة فرص تاريخية من الصعب ان تتكرر، بما اكتنزته من عوامل نجاح تم التفريط بها بشكل غريب، ورغم التباين في التفاصيل والعوامل الكابحة وطبيعة التجربة التاريخية لهذا البلد او ذاك، فان اعتماد قراءات تبريرية لهذه الخسارات، واسقاط احداث ونتائج لاحقة عليها، امر لا فائدة ترتجى منه، واكثر من هذا لا يؤدي الى التخلص من اضرار الهزائم فقط، بل يرسخ التراجع الذي انتجته، ويجعل يوم التغيير بعيدا .
ان اهتمامي بترجمة مقالة طاهري يعود للتشابه متعدد الجوانب بين المصير المأساوي الذي انتهت اليه تجربة مصدق في إيران، والنهاية المماثلة لتجربة ثورة 14 تموز 1958 في العراق. ووجدت من المفيد الإشارة الى عدد من أوجه التشابه، وليس جميعها، بين النهايتين قبل تقديم نص طاهري الموضوعي والمكثف للقراء:
1 – الانقلاب وسيلة الامبريالية المفضلة لوأد المشاريع التي تحضي بالتفاف جماهيري واسع وتتصدرها قوى اليسار والتقدم، ولهذه الانقلابات وصفة جاهزة وقابلة للتطوير دوما.
2 – استهدف الانقلاب على مصدق قطع الطريق على الشعب الإيراني لاسترداد حقوقه المشروعة، وكذلك القضاء على "الخطر الأحمر". في العراق ابتهج أعداء ثورة تموز المحليين، ولا زالوا يتفاخرون بالقضاء على "المد الأحمر".
3 – شكلت الهيمنة على النفط والمواد الخام وخيرات البلدين مشتركا مهما في تنفيذ الانقلابين
4 – كانت النضالات الشعبية والاجتماعية والاضرابات والانتفاضات، بقيادة الشيوعيين والقوى الديمقراطية، القاعدة الأساسية لانتصار التجربتين في سنواتها الأولى.
5 – غرور المتسلطين حينها، واستخفافهم بالحركات السياسية المعارضة ورموزها، يتضح من خلال تقييم نوري سعيد لشخصية عبد الكريم قاسم، بالإضافة الى مقولته الشهيرة "دار السيد مأمونة". وفي إيران كان الشاه ورئيس برلمانه وراء ترشيح مصدق لمنصب رئيس الوزراء.
6 – كان تردد عبد الكريم قاسم ومصدق في تسليح الجماهير، الضمانة الوحيدة لهزيمة الانقلابين، متشابها حتى في صياغة السبب المعلن "الحيلولة دون إراقة الدماء"، على الرغم من تباين دوافع الرجلين في اتخاذ مثل هذا الموقف الكارثي، الذي أنتج ضده، لان الانقلابيين تسببوا في إراقة بحر من الدماء وانتهاك حقوق الناس وخصوصياتهم، وكان عبد الكريم قاسم ومصدق في مقدمة الضحايا الى جانب قيادات الحزبين الشيوعيين في إيران والعراق، الى جانب الآلاف من الوطنيين والديمقراطيين والضحايا الأبرياء (المترجم). وفي ما يلي نص مقال طاهري:
نشرت صحيفة نيويورك تايمز، في عام 2000، مقتطفات من وثيقة أصبحت تعرف فيما بعد بورقة ويلبر. وحملت الوثيقة عنوانا رصينا: "الإطاحة بمصدق، رئيس وزراء إيران"، تحلل الوثيقة عملية الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني المنتخب ديمقراطيا، الدكتور محمد مصدق، في 19 آب 1953. جاء في مقدمة النص الأصلي، الذي غطى أكثر من 170 صفحة، هذه الوثيقة „خارطة طريق يمكن الاستفادة منها عند القيام بعمليات مماثلة". ومؤلف هذه الورقة هو دونالد نيوتن ويلبر، المخطط الرئيسي لـ "عملية أجاكس"، التي أرادت وكالة المخابرات المركزية من خلالها القضاء على "الخطر الأحمر" المزعوم دون أن تترك أثرا.
لكن لماذا كان لا بد من الإطاحة بمصدق؟ الجواب على هذا السؤال يقودنا إلى الوضع في إيران في النصف الأول من القرن العشرين. لقد كانت إيران أول دولة فيما يسمى بالشرق الأوسط تكتشف النفط وتستغله تجاريا. منذ عام 1908، كانت حقوق استخراج النفط ومعالجته تقع حصريًا على عاتق شركة النفط الأنجلو-فارسية APOC، , والتي عرفت لاحقا بـ ALOC والتي تسمى اليوم BP، والتي حصلت على حق الإنتاج لعقود من الزمن عن طريق رشوة الشاه الحاكم في ذلك الحين وحفنة من السياسيين. وبموجب العقد حصلت الدولة الإيرانية على قرابة 6 في المائة من الأرباح كرسوم امتياز. وكانت الحكومة البريطانية المساهم الأكبر في الشركة منذ عام 1912، لإنها كانت بحاجة إلى إمدادات وقود مضمونة لقواتها البحرية. وفي السنوات التي تلت ذلك، تم بناء أكبر مصفاة في العالم حينها في شبه جزيرة عبادان على الخليج.
"نار الصراع الطبقي"
كانت شركة النفط أكبر شركة صناعية في إيران؛ في عام 1948، كان يعمل في الشركة 63 ألف عامل. وكانت ظروف العمل للعمال الإيرانيين لا تطاق. لقد اضطر الآلاف العيش في الخيام لسنوات، وكانت مياه الشرب غير كافية، ولم يكن هناك مستشفيات تقريبًا. لقد أدت هذه الظروف إلى سلسلة من الإضرابات العمالية، والتي رد عليها البريطانيون دائمًا بنفس الأسلوب: أرسلوا سفنًا حربية، وهددوا بالغزو، وأجبروا الحكومة الإيرانية على فرض الأحكام العرفية. وتم قُتل أو اعتقل قادة الإضراب، فصل آلاف العمال.
على الرغم من كل الأعمال الانتقامية، أحرز تنظيم الطبقة العاملة تقدما. تم تنظيم عشرات الآلاف من العمال المضربين في نقابات، اعتبرتها الدولة أنها غير قانونية، لكنها كانت مدعومة من حزب توده، "حزب الشعب" (بعد عام 1942 الحزب الشيوعي الإيراني). منذ أواخر الأربعينيات، تعرضت الحكومة الإيرانية لضغوط شعبية متزايدة، هزت البلاد إضرابات عمال النفط العامة المتلاحقة. وفي ربيع عام 1951، أضرب أكثر من 60 ألف عامل. وكانت النقابة العمالية الشيوعية، التي ضمت حينها أكثر من 35 ألف عضو، المنظم الرئيسي للإضراب،. حتى القنصل البريطاني كتب لحكومته أن العمال يعتبرون حزب توده "المدافع الوحيد" عنهم.
الخوف من "نار الصراع الطبقي المدمرة"، كما وصفها رئيس الوزراء الإيراني حينها، المطالبة بتحسين ظروف العمل، التي يمكن أن تشعل النار في البلاد مما صدم الطبقة الحاكمة. أثار الإضراب قلق البرلمان والحكومة لدرجة أنه خلال أيام قليلة تم إقرار قانون تأميم الصناعة النفطية. وكان وراء اصدار القانون عضو في البرلمان يدعى د. محمد مصدق.
أوقات مضطربة
ينحدر مصدق، الذي كان يبلغ من العمر 68 عامًا في ذلك الوقت، من سلالة قديمة من نبلاء الموظفين. بدأ كمصلح ليبرالي، ثم تحول وزير العدل والمالية السابق، مع مرور الوقت، إلى المواقف الجذرية. لكن الرجل العجوز المصاب بمرض مزمن لم يؤخذ على محمل الجد. وقبل أشهر من التحولات، وصفه السفير البريطاني بأنه "شخص متباهي" و" عنيد جدا ولا يمكن افساده". في السنوات السابقة، تجمع بضع عشرات من التكنوقراط والأكاديميين الشباب حول مصدق، بهدف العمل على تحريك عجلة تحديث البلاد. وفي وقت لاحق، خرج من هذه الدائرة، حزب الجبهة الوطنية، وهو حزب قومي يساري.
وحتى بعد صدور قرار تأميم النفط، لم يأخذ الكثيرون مصدق على محمل الجد حقًا، فطلب منه رئيس البرلمان المحافظ تولي منصب رئيس الوزراء، ورشحه الشاه لهذا المنصب ايضا. وكان الهدف فشله في هذه المهمة، على غرار كثيرين من قبله. لكن، المزاج الاجتماعي كان قد تغير. وأدرك مصدق هذا التغيير واعتمد تدريجياً على الشعب أكثر من اعتماده على المؤسسات السياسية الكلاسيكية.
كانت الأشهر الثمانية والعشرون التالية هي الفترة الأكثر اضطرابًا في تاريخ إيران الحديث. لقد بذلت بريطانيا العظمى، التي كان لها تأثير حاسم على السياسة الإيرانية لأكثر من 100 عام، باعتبارها قوة إمبريالية كبرى، كل ما في وسعها لتقويض قرارات البرلمان التي تم تمريرها ديمقراطيًا والإطاحة بالحكومة. تم استدعاء جميع المتخصصين البريطانيين في صناعة النفط. وبينما فشلت الدعاوى القضائية التي رفعتها بريطانيا ضد التأميم في محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تولت البحرية البريطانية زمام الأمور بنفسها. ولمنع تصدير النفط الإيراني، استولت السفن الحربية البريطانية وصادرت العديد من ناقلات النفط المملوكة لدول محايدة. وتم إغلاق الموانئ الإيرانية ودخل الحظر الاقتصادي حيز التنفيذ.
الانقلاب
أصيب الشاه وأتباعه بالشلل. فمن ناحية، لم يرغبوا في الوقوف علانية إلى جانب بريطانيا، القوة الأجنبية، التي كانت مكروهة جدا من السكان، ومن ناحية أخرى، كانوا خائفين للغاية من عواقب سياسات مصدق. وقد باءت بالفشل محاولة خلعه في تموز 1952 بسبب المقاومة الشعبية التي حشدتها الجبهة الوطنية وحزب توده. لقد اعتبر البريطانيون الشاه أضعف من أن ينظم انقلابًا. وفي خريف عام 1952، قررت الحكومة البريطانية، التي عادت زعامتها مرة أخرى الى ونستون تشرشل أن تفعل شيئاً بنفسها. ومع ذلك، فمن دون مشاركة الولايات المتحدة، التي تصرفت سابقًا بشكل معتدل نسبيًا في الصراع، لم يعد بإمكان البريطانيين العمل في إيران. لقد قطعوا العلاقات الدبلوماسية وأغلقت السفارة في طهران.
انتهى الموقف المتردد لحكومة الولايات المتحدة عندما فاز أيزنهاور بالانتخابات الرئاسية في كانون الثاني 1953. وتلاحقت الاحداث المتسارعة: تضاعف عدد الموظفين والدبلوماسيين في السفارة الأميركية في إيران، وزادت ميزانية "المساعدات الزراعية"، التي وظفت كغطاء للرشى عشرات الاضعاف. لقد اغرقت إيران بالعملاء والدولارات. واستعدادًا للانقلاب العسكري، تم اختطاف وتعذيب الجنرال أفشار توس، الذي كلفته الحكومة بإصلاح الجيش، حتى الموت بمشاركة مباشرة من عملاء الولايات المتحدة الامريكية.
وفي أوائل تموز 1953، وافق تشرشل وأيزنهاور أخيرًا على خطة الانقلاب، وتم تحديد الموعد في 16 آب. لقد علم مصدق بالخطط في الليلة السابقة من قيادة حزب توده، عبر امتدادات الحزب في الجيش. تم القبض على الانقلابيين في اليوم التالي، وأعاقت تظاهرات سكان طهران الحاشدة تعزيزات الانقلابيين. وهرب الشاه من البلاد سرا.
عندها لجأت وكالة المخابرات المركزية والمخابرات البريطانية الى خطة الانقلاب ب. وكان فريق النسخة الثانية من منفذي الانقلاب جاهزا. وفي 18 آب، طلب السفير الأمريكي هندرسون لقاء رئيس الوزراء الإيراني. واشتكى خلال اللقاء من حالة انعدام الأمن في الشوارع وهدد بإغلاق السفارة وسحب الموظفين من البلاد. وفي الوقت نفسه لمح إلى إمكانية التوصل إلى حل وسط بشأن قضية التأميم.
نهاية دموية
وهنا ارتكب مصدق خطأً فادحاً: فقد افترض أنه بعد فشل الانقلاب، فإن الولايات المتحدة سوف تعترف فعلياً بحكومته وتختار طريقة سلمية لتسوية الصراع. وكان لا يزال يفترض أن البريطانيين كانوا الطرف الأساسي وراء المؤامرات. ولم يكن يريد أن يرى تغير دور الولايات المتحدة من شريك صغير إلى القوة الإمبريالية الأولى.
ودعا مصدق خلال اللقاء مع هندرسون إلى إنهاء المظاهرات والعودة للمنازل واستعادة النظام العام. لكن الشوارع الخالية امتلأت، في 19 آب، بحشود مأجورة من البلطجية والمجرمين المحترفين. وبقيادة شخصية من اوساط الجريمة يُدعى "شعبان عديم العقل"، هاجموا مكاتب وقاعات اجتماعات مؤيدي الحكومة. وفي وقت لاحق، انضمت إليهم وحدات عسكرية مكلفة بتنفيذ النسخة الثانية من الانقلاب. وتم تطويق مصدق في بيته، حيث كان يجتمع مع حكومته، وتم اعتقاله بعد ساعات من إطلاق النار. وخلال هذه الساعات، طلبت منه قيادة حزب توده ووزراؤه بإلحاح، الدعوة إلى مقاومة عامة وتسليح السكان. إلا أنه خوفاً من وقوع مذبحة على يد قوات العدو المتفوقة، رفض إعطاء هذه الاوامر.
وبينما أمضى مصدق بقية حياته في السجن وتحت الإقامة الجبرية، تم سجن المئات من أتباعه. لقد دفع أعضاء حزب توده ثمنا باهظا من الدماء. وعاد الشاه على الفور وانتقم بشدة من خصومه. وعزز سلطته، بدعم من جهاز المخابرات (السافاك) الذي تم تأسيسه حديثًا، بمساعدة الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين أنشأتا نظامًا إرهابيًا في العقود التالية.
أصبحت الإطاحة بالحكومة الإيرانية المنتخبة ديمقراطياً بمثابة المخطط الأساسي للانقلابات في العديد من البلدان. ونفذت وكالة المخابرات المركزية الامريكية انقلابات مماثلة في غواتيمالا وإندونيسيا، وفي الأرجنتين وتشيلي (عادة ما ينسى كثير من كتاب اليسار غير العراقيين الإشارة الى انقلاب 8 شباط 163 – المترجم)، وعادة ما تكون أكثر دموية مما كان عليه الانقلاب في إيران. وبعد مرور عام واحد على الانقلاب، حصدت القوة ا( تحذف ) الإمبريالية الجديدة العظمى ثمار جهودها: في اتفاقية كونسورتيوم جديدة، تم تقاسم النفط الإيراني بين بريطانيا العظمى والولايات المتحدة بطريقة اخوية.
*- نشرت الترجمة اول مرة في مجلة الشرارة، العدد 170 / أيلول 2023
روزبه طاهري: ولد في إيران وغادر البلاد إلى برلين الغربية في سن الرابعة عشرة. وفي التسعينيات نشط طاهري في أحزاب اليسار، وهو أحد مؤسسي (تحالف مصادرة المساكن الألماني "والمتحدث باسمه. وهو اليوم المدير التنفيذي لشركة التعاونية المسؤولة عن اصدار جريدة نويز دويجلاند التابعة لحزب اليسار الألماني. وكان عمه قد فر، بعد الانقلاب، من إيران أيضا.