اثارت مجموعة دول بريكس، منذ تأسيسها في عام 2009، اهتماماً لدى الاوساط السياسية والراي العام العالمي، أكثر من المجموعات الدولية الأخرى التي ظهرت بعد تفكك البلدان الاشتراكية في اوربا، باعتبارها المجموعة الأكثر حظا في خلق توازن جديد في العلاقات الدولية، إثر إنتهاء حقبة انفراد الولايات وحلفائها الغربيين في الهيمنة على العالم في السنوات التي تلت اختفاء الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارشو.
وبالتأكيد فان الكثير من المعطيات الجغرافية والسكانية والاقتصادية والعسكرية، التي تمتلكها البلدان الخمسة المؤسسة للمجموعة (الصين، الهند، روسيا، البرازيل، وجنوب افريقيا)، تقف وراء هذا الاهتمام، الذي يتوزع بدوره على مسارين:
الأول: هو خلق توازن جديد في العلاقات الدولية، في ضوء معايير لعبة المصالح بين المحاور والتكتلات الدولية. وهو أمر مفهوم، يضع، من لا يراقب تطوره ويسعى لتوظيفه لصالح مشروعه السياسي او قضيته الوطنية، نفسه خارج اللعبة، ويسّهل على خصومه ومنافسيه تحجيمه، او حتى هزيمته.
الثاني: وهو اهتمام الواهمين أو في أحسن الأحوال أصحاب التشخيص غير الدقيق ممن يرى بمثل هذه التجمعات الدولية، رافعة لبديل تنموي تحرري، يفتح الطريق لتجاوز الرأسمالية. ولعل قوى التحرر في البلدان المحتلة، وقوى اليسار الجذري والحركات الاجتماعية معنية بهذا الامر أكثر من غيرها، لان هذا الوهم يقود بالنتيجة الى تبني تحليلات وحسابات خاطئة، تنعكس سلبا على مسار القضايا الوطنية ومشاريع التغيير الكبيرة. والتجربة العالمية مليئة بالأمثلة على مثل هذه المراهنات التي قادت أصحابها الى اشكال متعددة من الهزائم والتراجعات المجانية. ولكيلا نبتعد كثيراًن يمكننا أن نتساءل، هل تمثل مجموعة بريكس بديلاً، يحمل مضامين تنموية وتحررية، يمكن التعويل عليها؟
قراءة اقتصادية
كتب الاقتصادي الماركسي البريطاني العروف مايكل روبرتس يقول "لقد انتهت أيام الهيمنة الكاملة للكتلة الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية"، قبل أن يستدرك مشككاً في اعتبار مجموعة بريكس تشكل "نقطة تحول في النظام الاقتصادي العالمي"، وإنه يرى بأن دول بريكس الخمسة تتمتع "الآن بناتج إجمالي محلي أكبر من نظيره في دول مجموعة السبع على أساس القوة الشرائية محليا (ً. (مقياس لما يمكن شراؤه بالناتج المحلي الإجمالي من السلع والخدمات محليا). ويبدو ذلك بمثابة نقطة تحول في النظام الاقتصادي العالمي، لكنه يبدو تحولاً وهمياً لسببين:
الأول: تتباين مساهمات دول بريكس في الناتج الإجمالي العالمي بشكل كبير، بين مساهمات عالية كالصين التي تبلغ حصتها 17.6 في المائة وبين مساهمات متوسطة كالهند (7 في المائة) وروسيا (3,1 في المائة) والبرازيل (2,4 في المائة) ومساهمات ضئيلة كجنوب أفريقيا (0,6 في المائة). ويبلغ متوسط مساهمة كل دولة من دول المجموعة 6.1 في المائة من الناتج الإجمالي العالمي. وما عدا ذلك، لا تزال دول بريكس متخلفة كثيرا عن مجموعة السبع من حيث المبالغ الاسمية بالدولار، وهو ما أعتقده مهما. بلغ الناتج الإجمالي المحلي لمجموعة بريكس 26 تريليون دولار في عام 2022، اي ما يعادل تقريبا الناتج الإجمالي المحلي للولايات المتحدة بمفردها.
الثاني: وحتى تنضم دول أخرى وتصبح كاملة العضوية، وهي الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، تظل مجموعة بريكس قوة اقتصادية أصغر وأضعف بكثير من كتلة مجموعة السبع الإمبريالية. كما أن دول بريكس مختلفة للغاية من حيث عدد السكان ونصيب الفرد من الناتج الاجمالي المحلي والموقع الجغرافي والتركيبة التجارية. وكثيراً ما تكون النخب الحاكمة في هذه البلدان غير متفقة (الصين في تضاد مع الهند؛ والبرازيل في تضاد مع روسيا).
وعلى عكس مجموعة السبعة، التي لديها أهداف اقتصادية متجانسة بشكل متزايد تحت سيطرة الهيمنة الأمريكية، فإن مجموعة بريكس غير متساوية من حيث الرفاه والدخل، وليس لديها أهداف اقتصادية موحدة، ربما .باستثناء محاولة الانفصال عن الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية. ولا سيما الدولار الأمريكي".
ولكن لا يزال هناك طريق طويل، قبل أن يتم كسر هيمنة الدولار الأمريكي، كما يقول روبرتس، مشيرًا إلى أن ما يقرب من نصف التجارة العالمية تتم حاليًا بالدولار الأمريكي، ويمثل الدولار ما يقرب من 90 في المائة من التعامل بالعملات الأجنبية العالمية المعنية. مما يجعلها العملة الأكثر تداولاً في سوق العملات الأجنبية، اذ أن 60 في المائة من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية معادل بالدولار. وحتى الصين استمرت في ربط احتياطيها من النقد الأجنبي بشكل كبير بالدولار الأميركي، وكذلك فعل بنك التنمية التابع لمجموعة بريكس. ويستمر اليوان الصيني في الارتفاع تدريجياً، كما ارتفعت حصة الرنمينبي (العملة الصينية الرسمية وحدتها الأساسية اليوان) في حجم تداول العملات الأجنبية العالمية من أقل من 1 قبل عشرين عاماً إلى أكثر من 7 في المائة اليوم. لكن العملة الصينية لا تزال تمثل 3 في المائة فقط من احتياطيات العملة الأجنبية العالمية.
بريكس ليس بديلا
ومع تطور وتوسع مجموعة بريكس، يتغير توازن القوى الجيوسياسي، مع استمرار التركيز على بلدان "الجنوب العالمي". يقول رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوسا: "العديد من بلدان جنوب العالم تخطو خطوات مهمة في التصنيع والتطوير التكنولوجي والابتكار والاقتصاد الرقمي، ولكنها لا تجني الفوائد الاقتصادية الكاملة". في حين تضع وزيرة خارجيته ناليدي باندور النقاط على الحروف وتؤكد على أن مجموعة بريكس لا ينبغي أن يُنظر إليها على أنها "معادية للغرب" أو حتى "موالية لروسي".
ويؤكد البيان الختامي لقمة بريكس على أهمية مجموعة العشرين، التي ستظل رئاستها في أيدي دول بريكس لمدة ثلاث سنوات متتالية، حيث ستتولاها البرازيل بعد الهند، ثم جنوب أفريقيا.
ولكن من الواضح أن "فكرة الجنوب" والشعوب التابعة المضطهدة من قبل نموذج التنمية الغربي الإمبريالي اللا إنساني لا علاقة لها بمعيار اختيار الأعضاء الجدد فقط، بل لا علاقة لها أيضًا بسياسة بعض الدول المؤسسة لمجموعة بريكس. واذا ما علمنا ان هناك 16 دولة أخرى قدمت طلبا للانضمام للمجموعة، وان 20 دولة أخرى عبرت عن رغبتها بالانضمام، فنحن امام خليط هجين واسع من الدول، التي لا يمكن الحديث عن مشروع بديل، اذا ما نظرنا لطبيعة الكثير منها.
ينتقد باتريك بوند، الأستاذ في جامعة جوهانسبرغ والمشارك في مبادرة قمة بريكس البديلة للاتحادات والمجتمع المدني في جوهانسبرغ، توسيع مجموعة بريكس، ولا يجد له علاقة بالقيم الديمقراطية في جنوب أفريقيا، والالتزام بمكافحة الفقر و بتغيير النظام العالمي، فيؤكد على "إنها تعزيز وامتداد للنظام الحالي، وليست بديلاً له"، ويضيف: "باستثناء البرازيل، فإن النموذج السياسي المشترك في دول بريكس هو نموذج يقوم على قدر أكبر من القمع المقترن بليبرالية جديدة عميقة".
جاءت أخبار انضمام السعودية إلى مجموعة البريكس بعد أيام قليلة من تقرير هيومن رايتس ووتش عن القتل المنهجي للمهاجرين الإثيوبيين على الحدود مع اليمن. مثال وحشي لسياسة المملكة، التي تعد واحدة من أسوأ الدول الاستبدادية في العالم، ولكنها أيضًا ذات وزن ثقيل عندما يتعلق الأمر بالمال، حيث يبلغ ناتجها الإجمالي المحلي 833 مليار دولار. والرياض أصبحت بالفعل "متعددة الأقطاب". فهي لا تزال حليفاً قوياً للولايات المتحدة، وقد أثرت عليها الصين وروسيا، وتقترب من إيران، وتنخرط في حوار مع إسرائيل، وتستثمر في أفريقيا، وتدعم الأنظمة الصديقة. وهو مثال صارخ على النموذج الرأسمالي الذي يفرض امتيازات اقتصادية متطرفة، ويعامل العمال المهاجرين مثل العبيد، ولا تنص قوانين العمل فيه على حق الإضراب ويحظر تشكيل النقابات.
وإذا ما تفحصنا بقية الوافدين الجدد، فانهم باستثناء الارجنتين، أنظمة وحكومات، لا يجمعها شيء مع نموذج التحرر والديمقراطية في العالم المعاصر، سوى الحاجة لتحالفات تأخذ بيد الضعيف منها، وتساعد الأقوياء على خوض صراعات الهيمنة في مواجهة المراكز الامبريالية السائدة.
لقد أدى عدم الوضوح بشأن مفهوم "الجنوب العالمي" و"التنمية المستدامة" الى احتجاج الحركات الشعبية ضد قمة بريكس في جوهانسبرج. ولم يسع أي من القادة المشاركين في القمة الى الحوار مع المحتجين، الذين تم إبعادهم عن القمة بمنطقة حمراء تفصل في العادة بين السياسة والحركات البديلة.
يعتبر أحد الناشطين من حركة "أوقفوا خط أنابيب النفط الخام في شرق أفريقيا"، القمة كارثة لأن مفهوم التنمية المستدامة يخفي الواقع الفعلي للاستغلال، ويعطي مثالا للاستعمار الجديد في أفريقيا: "الصين مع شركاتها الخاصة مشغولة ببناء أكبر خط أنابيب للنفط الذي سيعبر مئات المجتمعات من شمال أوغندا إلى ساحل تنزانيا. عشرات الآلاف من الأسر تفقد أراضيها وحياتها وتقاليدها وتتلقى تعويضات سخيفة. لقد تم قمع العديد من المجموعات السكانية والناشطين بالعنف والتهديدات، في انتهاك مستمر لحقوق الإنسان". ويضيف: "تمتلك شركة النفط الوطنية الصينية، من بين أمور أخرى، حقل نفط كينغفيشر الذي يستخرج النفط من بحيرة ألبرت، مما يهدد أحد أكبر موارد المياه في العالم". إن مفهوم "التنمية المستدامة" الذي تتبناه مجموعة بريكس يخلط بشكل كبير مع الاستكشاف والاستغلال.
وعلى الرغم من ذلك، يعلق روبرتو زانيني، رئيس تحرير جريدة "المانفستو" الإيطالية الشيوعية: "هل تتملك مجموعة بريكس الجديدة اقتصادات متوافقة، وتطلعات سياسية موحدة، وطموحات جيوسياسية متقاربة؟ وهل تمثل هذه المجموعة بدائل للرأسمالية؟ بطبيعة الحال هي بعيدة عن ذلك، وتحالفها غير آمن، لقد بدأت عمليات الاستيلاء، ويجري التودد للهند. هناك رابطة وحيدة مشتركة بين هذه القوى، هي الشعور بالضجر الشديد من الهيمنة المفترسة التي يمارسها الغرب، والدولة التي تقوده (الولايات المتحدة)، والمؤسسات التي تمارس صلاحياته (مجموعة الدول السبع، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي).
ونادرا ما تكون المجموعة ديمقراطية، بل إنها تعاني من تفاوتات اجتماعية أكبر من تلك التي لدينا (بلدان غرب اوربا)، وهي قومية بقوة وموجهة نحو التطور. إنها ليست دول عدم الانحياز، فلا يوجد شيء اسمه عالم ثنائي القطب، وجوهانسبرغ ليست باندونج.
ومع ذلك، من الجيد أن يتحدى شخص ما الدولار. ومن الجيد أن يكون للرأسمالية المالية، التي لديها محرك واحد فقط، معارضون آخرون يتمتعون بكتلة كافية لممارسة النقد".
*- نشرت لأول مرة في جريدة المدى في 4 أيلول 2023