تعود الجذور التاريخية لمفهوم " التنمية المستدامة " الى القرن الثامن عشر وما اعقبه من تدمير هائل للبيئة الخضراء والقطع المتعمد للاشجار فولدت فكرة زرع الغابات البديلة للغابات المدمرة وبعد الحرب العالمية الثانية اخذ هذا المفهوم مديات ابعد، اذ لم يقتصر الامر على إستدامة ما تم تدميره وانما اضافة مساحات خضراء جديدة أوسع بكثير مما كانت عليه سابقا. كما تجاوز مفهوم التنمية المستدامة تنمية الموارد الطبيعية المستهلكة الى مفهوم تنمية الموارد البشرية نفسها وهي صانعة القيم والموارد الجديدة كلها حيث اعتبر الانسان محور التنمية ، واقترن هذا المفهوم مع التحولات النوعية الهائلة في التقنيات الصناعية والزراعية ، كما اخذ هذا المفهوم ابعادا سياسية واجتماعية وثقافية إضافة الى بعده الاقتصادي .

مفهوم التنمية المستدامة ليس عائما فوق الصراعات التي يشهدها المجتمع الراسمالي سواء في مركزه ام في اطرافه ، لذلك نجد عشرات التعاريف لهذا المفهوم ، يعكس كل تعريف منها الزاوية التي ينطلق منها الباحثون ارتباطا بالطبقات والمصالح التي يرتبطون بها . ويمكن الركون الى عامل مشترك يجمع كل تلك التعاريف وهو ان التنمية المستدامة تستند الى افضل السبل في استثمار الموارد الطبيعية والبشرية للوصول الى مجتمع مرفه يحقق السعادة والرفاهية للمجتمع من دون الاضرار بالطبيعة او بمصالح الأجيال القادمة .

أصبحت التنمية المستدامة ضرورة موضوعية لا غنى عنها في المجتمعات المعاصرة ، ليس فقط لمعالجة المشكلات التي انتجتها الراسمالية من تفاقم الفقر والبطالة والامية والتمايزات الطبقية والاجتماعية وانما لبناء مجتمعات متطورة تستند الى تطوير المورد البشري لتحقيق الاكتفاء الذاتي واستغلال الموارد الطبيعية بالشكل الأمثل واعتماد مبادئ العدالة الاجتماعية في التوزيع . وبذلك أصبحت التنمية المستدامة احد المعايير الاساسية لتمييز المجتمع المتخلف من غيره .

المجتمعات التي نجحت في تنفيذ عمليات التنمية المستدامة اعتمدت نظاما سياسيا وامنيا مستقرا تلعب فيه الإرادة السياسية والمشاركة والرقابة الجماهيرية دورا كبيرا في نجاح التجربة، ونظاما اقتصاديا يستند الى تنوع قطاعاته بعيدا عن الاقتصاد احادي الجانب، واعتماد ستراتيجيات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتوفر البنى التحتية اللازمة لتنفيذ خطط ومشروعات التنمية المستدامة، ونظام تعليمي يستند على العلوم والتكنولوجيا بعيدا عن التلقين.

بالرغم من الضجيج الإعلامي والجعجعات الكلامية عن التنمية المستدامة في العراق والافاق الوردية التي رسمها مشروع الاحتلال والمهرولون خلفه من الكتل التي هيمنت على مقاليد السلطة بعد 2003 فان هناك بونا شاسعا بين التخطيط والتنفيذ ، بين الوعود الزائفة وبين الواقع المرير الذي يعيشه العراقيون . فعلى مستوى التخطيط نجد :

أولا : ثلاث خطط للتنمية الوطنية وهي خطط ( 2010-2014 ) و ( 2014-2018 ) و ( 2018- 2022 ) شاركت في اعدادها جميع الوزارات العراقية والمحافظات وفرق متخصصة وطنية واجنبية واشرفت على العمل كله وزارة التخطيط .

ثانيا : برامج الحكومات العراقية التي يقدمها رؤساء الوزراء الى البرلمان للموافقة عليه .

ثالثا : برنامج إعادة الاعمار والتنمية في العراق 2018

رابعا : استراتيجية تنمية القطاع الخاص (2014-2030 )

خامسا الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد ( 2016-2020 )

سادسا : سترانيجية الحد من الفقر ( 2018- 2022 )

سابعا : الاستراتيجية المتكاملة للطاقة ( 2012 )

ثامنا : ستراتيجية الامن القومي ( 2016 )

تاسعا : تقرير الأداء والمخاطر المالية للشركات المملوكة للدولة ( 2016 )

إضافة الى هذه الخطط والتقارير الحكومية فان هناك دراسات عديدة عن الأوضاع في العراق قدمها البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( 2016 ) .

من الواضح ان هذه الخطط والدراسات الرصينة تعطي انطباعا اوليا على ان الدولة في العراق تعطي أهمية بالغة للتخطيط بعيدا عن العفوية والارتجال في الاقتصاد وغيره ، لكن ما يجري على ارض الواقع هو غير ما يسطر على الورق . فالخطط السابقة لم تفشل في تحقيق أهدافها فقط بل انتجت تراجعا مذهلا على كافة الصعد اذ " انخفضت كفاءة الأداء المؤسسي وزاد عدد العاملين مقابل انخفاض إنتاجية القوى العاملة، واستشراء الفساد المالي عموديا وافقيا تحت إدارة واشراف مافيات الدولة العميقة، ومناخ استثماري سيء ودور محدود للقطاع الخاص وموازنة غير مستقرة ونظام مصرفي متخلف" إضافة الى تكريس الاقتصاد الريعي الذي ينتج دولة استبداد وتقاليد ابعد ما تكون عن الديمقراطية. وتشير التقارير الى زيادة نسبة الفقر والبطالة بارقام تبدو خيالية وليس ادل على ذلك من ملء حوالي (15) مليون استمارة عقد مع وزارة الداخلية لشباب من خريجي الابتدائية والمتوسطة في اليوم الأول لإطلاق تلك العقود. كما تعكس الوقائع الى تراجع القطاع التعليمي والصحي والخدمي .

ان بلدنا بوضعه الراهن يجري بسرعة نحو هاوية سحيقة ولن تنقذه كلمات براقة عن حكومة خدمات وتنمية مستدامة واجواء انتخابية حرة ، فدول الاحتلال والكتل المهيمنة على القرار السياسي والاقتصادي ماضية بكل ثقلها لتدمير ما تبقى من العراق وتكريس تبعيته للقوى الإقليمية والدولية.

عرض مقالات: